ذكريات شاعر مناضل: 35- الربيع فى بقعة مجهولة

35- الربيع فى بقعة مجهولة


  مرت أيام شهر مارس (آزار) على البقعة التى كنت أقيم فيها، وعلى ما حولها من البقاع، مرور الساحر القدير، فأينعت أشجارها بالخضرة الوارفة، واكتست بثياب زاهية من الزهور الباهرة الألوان، وتحولت برودة جو الشتاء إلى أنسام عاطرة دفيئة، وعلت أهازيج الطيور وأغاريدها حتى غطت على أستار السكون الشفيفة التى كانت تحيط بالمكان.
 وجدتنى أستغرق فى هذا الجمال والبهاء الوافد، ووجدت قيثارة الشعر تجيش فى وجدانى بانغامها العذبة الرقيقة، ووجدتنى أفرغ فى يوم واحد من كتابة قصيدة جديدة، كانت بعنوان: الربيع فى بقعة مجهولة. وجاء فيها:
 وقفت أرقب الربيع ينثر الزهور..
ويقرع الأجراس حول كوخى الصغير..
كأنه صبية أسكرها الصبا..
فإنطلقت ترقص فى فستانها الحرير!
فى بقعة نائية عن أعين العدا..
كأنها منسية من أقدم العصور.
تلفها خميلة تضوع بالشذى..
وتكتسى بالنور..والظلال..والعبير
خميلة جميلة رصعها الندى..
وأرقصت أغصانها زقزقة الطيور..
وغازلتها الشمس فى الأصيل والضحى..
وأثملت فؤادها عذوبة البكور..
يشكو إليها بلبل لواعج الهوى..
ويصدح اليمام من فؤاده الكبير.
           .... إلخ.
 فرحت بهذه القصيدة كثيراً، واعتبرتها دليلاً على أن كل ما مررت به من المتاعب والمشاق، لم ينل من سلامة قواى وملكاتى الداخلية. وسرنى أنها- حين قرأتها على الآخرين- محمد على ماهر، وسعد مكاوى، قد أبديا سرورهما بها.
 كنت أتابع ما تنشره الصحف عن تطورات التحقيق فى قضية "الانتفاضة"، انتفاضة 18 ، 19 يناير، التى كنت متهماً فيها. وأدركت أن التحقيقات قد انتهت، وأن النيابة تقوم حالياً بإعداد قرار الاتهام وأمر الإحالة فى الدعوى، تمهيداً لإحالتهما إلى المحكمة المختصة، وهى محكمة أمن الدولة العليا. وكنت متأكداً من أننى سوف أكون فى مقدمة المتهمين فيها. لذلك تنبهت إلى ضرورة تقديم استقالتى من العمل فى مؤسسة السينما، فى أسرع وقت ممكن، حتى يمكن تسوية معاشى، حماية لأسرتى من التعرض لانقطاع مواردها، بانقطاع مرتبى الذى كانت سهير تصرفه من البنك كل شهر، بموجب توكيل كنت قد عملته لها من قبل. زكنت أعرف - كرجل قانون - أن الاستقالة يجب أن تقدم، وأن تقبل، قبل صدور قرار الاتهام، وإلا امتنع قبولها، وامتنعت تسوية معاشى، لحين الفصل فى القضية، وتحديد موقفى فيها بموجب الحكم.
 لذلك بادرت بكتابة رسالة إلى زميلى وصديقى- الأستاذ رؤف يعقوب، المحامى بالإدارة القانونية بالمؤسسة، والذى كان زميلاً لى بها حين كنت أنا مديرها، والذى كان قد أصبح هو مديراً للإدارة، والذى أصبح فيما بعد قاضياً،ومستشاراً كبيراً فى القضاء كتبت له رسالة حرصت على أن أذكرها فيها أننى أكتبها من الجزائر الشقيقة، أرفقت بها خطاب استقالة من العمل، موجهة منى إلى رئيس المؤسسة، الذى كان فى ذلك الحين، هو المهندس محمد الدسوقى، الذى كانت تربطنى به علاقة ودية حميمة. وطلبت من سهير أن تحملها إليه فى مكتبه بالمؤسسة بجهة الهرم، وفعلت هى ذلك.
  أدرك رؤف، بفطنته وخبرته، أهمية الأمر، وأهمية الإسراع فى إنجازه، فبادر، بمساعدة من كل الإخوة والزملاء فى المؤسسة، الأستاذة منيرة ماضى المحامية، والأستاذ حسن مدين المحامى، الذى أصبح قاضياً ومستشاراً فيما بعد، والأستاذ توفيق العقدة المحامى، والأستاذ ماهر مهران مدير إدراة المستخدمين فى المؤسسة، ثم بمساعدة الصديق مختار العفيفى، الذى كان قد أصبح مديراً عاماً للمؤسسة، ثم بمعونة صادقة كريمة من المهندس محمد الدسوقى، بمشاركة ومساعدة كل هؤلاء، تم قبول الاستقالة وإنجاز المهمه، وكان ذلك فى اليوم السابق مباشرة لصدور قرار الاتهام، وظهور اسمى فيه، كما نشر فى الصحف الصادرة فى اليوم التالى، ولولا ذلك لتعذر صرف معاشى لأسرتى لعدة سنوات. وشمر رؤف يعقوب وزملاؤه عن ساعد الجد، فأنهوا إجراءات ربط المعاش فى أسرع وقت، ثم تولى أخى محمد صديق، شقيق سهير، بهمته المعهودة، مهمة صرف المعاش لسهير فى سرعة غير عادية.
 تولت سهير صرف المعاش، بموجب التوكيل، وعرفت بذلك فطلبت نفساً، وزال عنى القلق الذى كان يساورنى على مستقبل أولادى الثلاثة، ليلى، ويوسف، ومنى، وعلى سهير أيضاً، خوفاً من انقطاع مصدر رزقهم، خاصة وأن الثلاثة كانوا فى مرحال التعليم الفاصلة، ليلى فى السنة النهائية بكلية الآداب، ويوسف فى المراحل النهائية فى كلية الطب، ومنى فى السنة الأولى بكلية الآداب - قسم إنجليزى.
 شعرت بالراحة والاطمئنان على مستقبل أبنائى، أما أنا فلم يكن هناك شئ قادر على إزعاجى، إذ كنت مستعداً لكل شئ.
 لم يطل بنا انتظار الضربات الغادرة التى كنت أتوقع مجيئها من جانب الإخوة الأعداء، فى التكتل. إذ فى أوائل أبريل، علمت من الرفيق عاصم، والرفيق أحمد، أن زميلنا إبراهيم، وزميلنا عصام (فوزى الحبشى)، قد قاما بقطع النقود عن مجموعتنا، فانقطعت بذلك الموارد عنا. وكان عصام، قد عين، بقرار من التكتل مسئولاً عن مالية الحزب، تحت إشراف إبراهيم، مسئول التنظيم، وكان كلاهما من المسئولين فى التكتل.
 كان لدينا عدد من الرفاق الهاربين من الأمن، كنت أنا، وأحمد، وفاروق، ومكرم من ضمنهم، كانت لنا احتياجات للسكن، والانتقال، والمعيشة، كما كان تسيير العمل الحزبى يحتاج إلى نفقات كثيرة، لإيجارات الأماكن، ووسائل الانتقال، وغيرها. وكان كل ذلك يحتاج إلى مبالغ كبيرة، كانت تتحملها ميزانية الحزب حتى ذلك الحين. وكان قطع الإنفاق على كل هذا الأغراض، يعنى تخريب عملنا، وتعريض أمننا وأمن رفاقنا لخطر داهم. وكنا نعرف، من واقع خبراتنا السابقة بالأساليب التكتلية والانقسامية التى مررنا بها فى فترات الانقسامات السابقة، أن هذا السلاح، سلاح قطع الموارد المالية، هو من أخطر وأقذر الأسلحة التى يلجأ إليها الانقساميون فى وقت الأزمات. ولعل توقعى لاحتمال حدوث ذلك، كان من أهم أسباب سعى الحثيث لتسوية معاشى فى أسرع وقت ممكن، احتياطاً لانقطاع الموارد عن أسرتى.
 كانت أومة قاتلة، وضربة غادرة تحت الحزامن من الرفاق الذين كنا قد وضعنا أيدينا فى أيديهم وتعاهدنا معهم على الوفاء والصفاء، وكان مثل ه>ا الموقف العدائى، مما لا يتوقعه أحد ولا يعتبر سلاحاً مشروعاً فى الصراع الداخلى فى الخزب، بحال من الأحوال.
 ولولا الزميل سالم- سعد كامل- لما أمكننا الصمود أما هذه الضربة الغادرة. كان سعد رجلاً لا نظير له. كان يملك قدرة على المبادرة لا يملكها سواه، وخصوصاً فى مجال النشاط الجماهيرى، وهو ما كان قد أهله- منذ سنوات- للقيام بدور لا ينسى فى بناء حركة السلام، كما كان قد أهله منذ سنوات أيضاً لبناء صرح الثقافة الجماهيرية لوزارة الثقافة، فى طول البلاد وعرضها. هرع سعد لسد الثغرة الخطيرة، فبادر باللجوء إلى بعض العاطفين والأصدقاء- المهمين- واستطاع بمعونتهمن أن يدبر كل الاحتياجات اللزمة لإدارة دفة النشاط على مدى سنوات.
 كانت ابنتى منى قد زارتنى فى مخبأى، وكثت معى يومين، ولاحظت انها كانت تمر بأزمة نفسية، وكان الجو ملبداً بالكثير من العواصف والغيوم، إذ كان السادات لاينى عن إلقاء الخطابات الملتهبة التى يندد فيها بالشيوعية والشيوعيين كل يوم، متهماً لنا بأننا نحن الذين أثرنا أحداث الانتفاضة يومى 18 ، 19 يناير وأننا نحن المسئولين عن القتل والدمار والتخريب الذى وقع فيها، وكنت أعلم أنه كاذب فى هذا الإدعاء وقد أقر هو لى بذلك بنفسه فيما بعد- وأمام شهود - على ما سوف يأتىذكره فى حينه، كما كانت الصحف ووسائل الإعلام- الحكومية- لاتكف عن ترديد تلك الأكاذيب، والنباح بها، خاصة مع قرب نظر القضية أمام محكمة أمن الدولة العليا.
 لاحظت أن منى تعانى من أزمة نفسية، وأدركت أن هذه الأزمة قد ألمت بها نتيجة لتأثرها بأجواء تلك الحملة الضاربة، ووجدت نفسى أتجه إلى مواجهة تلك الحملة بقصيدة أتصدى فيها لهذه الأضاليل والمفتريات، وفى خلال يومين كتبت قصيدتى التى سميتها: "مصر فى المخاض"، وكانت قصيدة ملحمية طويلة، جاء فى مطلعها:
لا تراعى يا ابنتى..لاتحزنى
عندما تهبط أستار الضباب
ويغيم النور فى أبصارنا
وتصك السمع أصداء العذاب
لا تراعى إن علت فى أرضنا
ضجة البوم..وصيحات الذئاب
أو بت ترقص فى ساحاتنا
وحشة الموت.وأشباح الخراب
   -وجاء فيها:
مصر مازالت بخير..لم تمت..
مصر لم تيأس..ولم تلق السلاح
إننى أعرفها..أبصرها..
مثلما أبصر أنوار الصباح
  ...
مصر لم تعكف على مأساتها..
مصر لا تبكى على أحزانها..
مصر فى قلب مخاض هائل..
يبعث المكنون فى وجدانها
مصر تستشرف صبحاً رائعاً
ينفض الأوهام عن أجفانها
مصر تستقبل يوماً فاصلاً
يبعث الأموات من أكفانها
...
مصر لم تركع..ولم تحن الجبين
مصر لم تخضع لساطان الخيانة
طالما فى مصر من أبنائها
من أبى السير على درب المهانة
...
مصر لا تلبث إلا أن تعود..
حره..مرفوعة الرأس..أبية
تتحلى بملايين الورود
تتزيا بالثياب العربية
تتغنى للتحدى والصمود
وتزيح العار بالكف القوية
تتجلى تحت أبصار الوجود..
فى سنا المجد.. ووشى العبقرية
...
نحن أكدنا لها عودتها
وسقينا العهد من أيامنا
نحن أوعددنا لها عدتها
ورصفنا الدرب من آلامنا
نحن أوقدنا لها جذوتها
وشببنا النار من أحلامنا
نحن شيدنا لها قلعتها
ونشرنا الفجر من أعلامنا
...
   -إلى أن جاء فى ختامها:
مصر حبى..لوعتى..ظالمتى
فتنة الشيب..وينبوع الشباب
وقليل فى هواها شقوتى
وقليل ما ألاقى من عذاب
مصر أنشودة عمرى كله
وشجى روحى..ووجدانى الكذاب
وهى نارى..جنتى..أخرتى
ونصيبى من ثواب أو عقاب
...
لا تراعى يا ابنتى..لاتحزنى..
نحن نرعى مولد الفجر الجديد
فإذا انداحت على آفاقنا
ظلمات الليل ترمى بالوعيد
وإذا هبت علينا شقوة
أو تعالى فوقنا قصف الرعود
فاغرسى كعبيك فى هذا الثرى
وارفعى رأسك للأفق البعيد
 -أعطيت نسخة من القصيدة لابنتى منى، فقرأتها، وسرى عنها، وابتسمت. ثم أعطيت القصيدة للرفاق، فقاموا بطبعها فى مطبعتنا السرية، وقاموا بنشرها على نطاق واسع بين أعضاء مجموعتنا، وبين أصدقائنا وعاطفينا، ولقيت القصيدة قبولاً وإعجاباً لدى هؤلاء الرفاق والأصدقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق