ذكريات شاعر مناضل: 32- فى كنف الأصدقاء

32- فى كنف الأصدقاء


مكثت فى ضيافة الرجل الكريم - الأستاذ محمد عطية، وابنتيه مها، وهالة أسبوعاً، إلى أن رفع حظر التجول، ومر على رفعه يومان آخران. واستغرقت هذه الأيام السبعة كلها فى التحضير لهروب طويل.
  أول ما فعلته، أن أقمت خط أتصال بريدى مع أسرتى، فقد وجهت مها إلى أن تحضر سبتاً صغيراً من أعواد الغاب، وأن تربطه بحبل طويل، وأن تدليه من نافذة صالة منزلهم إلى المنور، وأن تتدرب على تحريكة فى المنور حتى يصل إلى نافذة مطبخ شقتنا عبر المنور. وقامت مها بهذه المهمة بكل براعة، واستطاعت أن تلفت نظر ابنتى ليلى، التى قامت هى الأخرى بالإمساك بالسبت عند وصوله إلى نافذة مطبخنا، وفهمت الفتاتان المطلوب بذكاء تحسدان عليه.
 أول رسالة كانت إلى يوسف ابنى - الطالب فى كلية الطب وقتها - كلفته بالذهاب إلى بعض أقاربى، والبحث معهم فى إمكانية انتقالى للإقامة عندهم لبعض الوقت. وقد قام يوسف بهذه المأمورية، ولكنه عاد منها مستاء من هؤلاء الأقارب، الذين أبدوا نذالة وجبناً، وتملصوا من الموقف بأعذار مختلفة.
 عدت فأرسلت ليوسف أن يرتب لى طريقة للخروج الآمن من شارعنا، عن طريق بعض أصدقائة ومعارفنا، ممن لديهم سيارات، وذلك على نحو معين سوف يأتى ذكره لاحقاً.
 اتفقت مع الفتاه الشجاعة مها على تحضير بعض لوازم التخفى. قامت بشراء صبغة شعر سوداء، وقامت بصبغ سوالفى البيضاء، والتى كانت تعتبر من ملامحى المميزة فى ذلك الحين، وكانت حافظة نقودى تحتوى على بضعة جنيهات، أعطيتها بعضاً منها، وطلبت منها   أن تشترى لى جبة وقفطاناً مستعملين من سوق الكانتو فى ميدان العتبة، وأن تشترى طاقية صوف وشال عمامة، وعصا سلامية (الفلاحى)، ونظارة شمس سواداء، وقامت الفتاه البارعة بإحضار كل هذه الأسياء، وكانت كلها على النحو المطلوب.
 تم الاتفاق بين يوسف وأصدقائه على تجهيز سيارتين، يقود كل سيارة أحد الشبان، ومعه آخر يجلس إلى جواره، والانتظار فى حالة استعداد إلى حين حلول الموعد الذى سيتفق عليه.
 حلت ساعة الرحيل، وكانت عند حلول المساء فى اليوم المتفق عليه. كنت جاهزاً، أرتدى ملابس شيخ ريفى، بالجبة والقفطان والعمامة والتلفيحة الصوفية، وأضع على عينى النظارة السوداء وتحتها على إحدى عينى - قطعة كبيرة من القطن، للإيهام بأن هذا الشيخ له عين مريضة، وبيدى سبت من الغاب به بعض الملابس الأخرى، على عادى أهل الريف. من هذه اللحظة أصبح اسمى هو: الشيخ عبد الباقى، وهو الاسم الذى ظل يعرفنى ويخاطبنى به عدد من أصدقائى ومعارفى، بعد ذلك لمدة طويلة.
 نزلت على سلم عمارة آل عطية، فوجدت سيارة نصر بيضاء تنتظرنى أمام العمارة، يقودها شابان (أصبحا طبيبن فيما بعد) ، هما -محمد الأنصارى، وضياء الحمامى، نزلا وساعدانى فى الركوب، ثم قاد الأنصارى السيارة خارجاً من شارعنا المقفل، إلى الشارع العمومى، تحت أنظار العديدين، جزء منهم من رجال البوليس والمرشدين.
 سار الأنصار بالسيارة فى عدة شوارع متداخلة حتى اطمأن إلى عدم وجود رقابة من سيارات أخرى، إلى أن وصل إلى مستشفى الشبراويشى فى ميدان فينى بالدقى، وهناك وجدنا سيارة أخرى، فيات بيضاء أيضاً فى الانتظار، نزلت من السيارة الأولى، وركبت السيارة الثانية، وكان يقودها - الشاب هشام السعيد، الطالب بكلية التجارة، والذى أصبح زوج ابنتى منى بعد بضعة سنوات، وكان إلى جواره صديق له - هو عمرو الطنبولى. سارت بنا السيارة طويلاً. إلى الجيزة فطريق المعادى، وأنا أوجه الإرشادات إلى هشام - السائق - فيسير وفقاً لها.
 وصلت السيارة إلى المعادىوفيها، شمال فيمين، شمال فيمين، إلى أن وصلنا إلى العمارة التى أريدها، فتوقفت.
 نزلت من السيارة، ونزل هشام معى وهو يحمل لى السبت، دخلنا من باب العمارة، وصعدنا على السلم دوراً واحداً. توقفت أمام باب الشقة، وضغطت الجرس. بعد قليل خرج صديقى العزيز سعد، سعد مكاوى - الكاتب الكبير - ونظر وهو يستغرب لهذا الشيخ الريفى الذى يطرق بابه فى هذا الوقت من الليل، وظن لوهلة ان الشيخ قد ضل طريقة إلى شخص آخر، فبادره بالسؤال:
  -عايز مين يا مولانا؟
 فأجبته بهدؤ، عايزك انت يا أستاذ سعد، أنا الشيخ عبد الباقى. قريبك من البلد.
 وفهم سعد فوراً الموقف كله، فابتسم وهو يفسح لى الطريق قائلاً:
 -أهلاً وسهلاً.. اتفضل يا مولانا.. اتفضل.
 تناولت السبت من يد هشام، وصافحته مودعاً وأنا أقول له:
 -شكراً يا هشام..شكراً.. اتفضل انت، مع السلامة.
 انصرف هشام، ودخلت وراء سعد مكاوى إلى غرفة الجلوس التى كنت أعرفها جيداً فى منزله.
 لم تستمر دهشة سعد من الموقف طويلاً، فسرعان ما أدرك- بذكائه المعهود- الموقف تماماً، ولكن استغرقته التفاصيل فأخذ يتأملنى، منظرى، ملابسى، عمامتى، عصاى، نظارتى والقطن الطبى..إلخ- وكان الذى يتأملنى،ليس هو صديقى سعد مكاوى، وإنما الكاتب الروائى والقصاص، سعد مكاوى، وبدا عليه نوع من الإعجاب بما يرى.
 دخل سعد إلى داخل الشقة، ثم عاد ومعه زوجته بهيجة، وراءهما أبناهما-هالة، وهشام، ووقف الثلاثة ينظرون إلى باستغراب، وهو يقول لهم:
 -عمكم الشيخ عبد الباقى من بلدنا- الدلاتون- وجاى ضيف عندنا- فهمت بهيجة- وكانت سيدة ذكية- الموقف أيضاً، فقالت وهى تصافحنى مبتسمة:
 -أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً.
 ثم انصرفت هى وأبناها. وجلس سعد.
 قلت له:
 -ماعلهش يابو السعود، للضرورة أحكام، وأنا آسف على هذه المفاجأة، ولكنى  لن أطيل البقاء عندك، وفى خلال يوم أو اثنين على الأكثر، سأرحل عنك.
 قام سعد من مكانه، وأقبل على يحتضننى ويقبل رأسى، ووجهى، قائلاً:
 -لأ يا محمود، ماتقولش كده، أهلاً بيك، على الرحب والسعة.
مكثت فى ضيافة سعد وأسرته ثلاثة أيام، وأنا فى ملابس الشيخ عبد الباقى - أنا على أريكة فى غرفة جلوسه، التى كانت هى أيضاً غرفة مكتبه. تطل على لوحة زيتية معلقة على الجدار المواجه للأريكة، بها منظر طبيعى حزين لسماء خريفية مكفهرة بالغمام الداكن. وتحضر إلى زوجته المحترمة طعامى وشرابى لأتناولهما على المنضدة الصغيرة بحجرة الجلوس، حتى لا يلفت وجودى نظر أحد من الناس، الشغالة - بائع الجرائد -إلخ.
  أخبرت سعد، أننى أريد أن انتقل من منزله بالمعادى، إلى مكان آخر فى حلوان، مكان يعرفه سعد جيداً كما أعرفه أنا، وهو زاوية الصوفية الشاذلية، الخاص بوالد صديقنا الأستاذ محمد على ماهر، الكاتب الكبير، والذى طالما قضينا فيه أوقاتاً طيبة معاً، وأنى أرغب فى الذهاب إلى هناك وطلبت من سعد، أن يذهب إلى ماهر ويستأذنه فى ذلك.
 أقرنى سعد على هذا الإختيار، وفى اليوم التالى، ما أن حل المساء، حتى نزل سعد متوجهاً إلى حلوان وبقيت أنا فى انتظاره.
 بعد ساعتين، أو أكثر قليلاً، عاد سعد من حلوان. كان متهللاً وما أن التقط أنفاسه حتى بدأ يروى لى ما حدث. قال:
 -قابلت ماهر، وهو يهديك السلام، وشرحت له الموقف، ثم أخبرته أنك تسأله عما إذا كان فى استطاعتك أن تذهب للإقامة فى زاوية المرحوم والده، فأجابنى دون تردد:
 -طبعاً.طبعاً، ييجى على الرحب والسعة، وأنا أقتديه بنفس وبكل أولادى، وإن ما شاليتوش الأرض أشيله فى عينيا.
 ثم أخبرنى سعد، بأن محمد سيقوم غداً بإعداد المكان وتنظيفه، وسينتظرنا غداً مساء - أنا وانت - هناك، بعد صلاة العشاء.
 فى الليلة التالية، ما أن اقترب الموعد حتى نزلت أنا وسعد، بعد أن ودعت عائلته، وأنا فى هيئة الشيخ عبد الباقى بكامل أوصافة.
 وركبنا سيارة تاكسى إلى حلوان. نزلنا منها أمام محطة القطار، ثم ركبنا عربة حنطور إلى المكان المقصود. استقبلنا ماهر مرحباً ومهللاً بالشيخ عبد الباقى. وكانت الزاوية قد فرغت من زوارها من الإخوة الذين كانوا يصلون العشاء فيها، ودخلنا إلى الغرفة الداخلية التى سأقيم بها، وجلسنا، أنا، وماهر، وسعد. ثم بدأ ماهر ينخرط فى قراءة القرآن. قرأ كثيراً من سور وآيات الحفظ. وأطال فى تلك القراءة، حتى شعرت أنه يريد أن يحصننى ضد أخطار كثيرة يتوجس منها، وأخيراً استودعنى الله، وخرج هو وسعد، على أن أنام أنا بعد أن أغلق باب الشقة بالترباس.
 دخلت إلى الغرفة الداخلية، وكان الليل قارس البرودة، وكان السكون شاملاً وعميقاً حتى أننى كنت أسمع صوته. خلعت جبتى، وبقيت بالقطفان، وتدنرت بالبطانية، وقرأت آيه الكرسى، ثم أدركتنى رحمة الله فسقطت فى نوم عميق.
 صحوت فى وقت الضحى، وفتحت نافذة الغرفة، فوجدتنى أطل على منظر بهيج، حديقة خلفية زاهرة، بها عدة أشجار وشجيرات يانعة، تغرد عليها يمامات وتصدح عصافير.
 ذهبت إلى الحمام، وعدت، فسمعت طرقاً على باب الشقة، فذهبت وفتحت الباب، فرأيت رجلاً لم أعرفه من قبل، كهلاً طويل القامة، يرتدى بدلة رياضية، تريننج سوت، وشعره الذى وخطه الشيب، طويل مسدل خلف رقبته، ورأيته يحمل فى إحدى يديه مقطفاً صغيراً، وفى الأخرى وعاء من الزنك، له غطاء. قال لى وهو يتأملنى:
 -أهلاً وسهلاً بسيدنا الشيخ. أنا أخوك محمد هجرس المثال، وصديق الأستاذ ماهر. اسمح لى أقدم لك، دى حاجة بسيطة. وقدم لى ما فى المقطف، فإذا به كمية من المنين المنزلى المخبوز، ثم قدم لى وعاء الزنك وهو يفتحه، فإذا به كمية من الجبن الأبيض الفلاحى.
  شكرت الرجل، وجلس معى قليلاً ثم استأذن فى الانصراف. وتذكرت أننى سمعت عن الفنان الكبير، المثال، والرسام، محمد هجرس، بل وقرات عنه فى بعض الصحف والمجلات، وأدركت أنه وهو من نوابغ الفنانين فى العصر، كم أنه على هذه الدرجة من الطيبة والبساطة وكرم الأخلاق. ثم علمت فيما بعد، أنه كان قد علم من أنا، وما هى حكايتى، وكان يسكن فى منزل قريب فى حلوان، فأتى ليقدم لى ما عنده من كرم الضيافة.
 أفطرت من منين هجرس، وجبنه الأبيض، وصنعت لنفس كوباً من الشاى، على موقد غاز صغير وجدته فى ركن من الغرفة، كما وجدت عدااً من البرطمانات الصغيرة، بها شاى، وسكر، وبن.
 وكنت أدخن فى تلك الأيام، فجلست أدخن سيجارة بلمونت من علبه سجائرى. كنت قد تعرفت على محمد على ماهر منذ حوالى ثمانية سنوات. عرفته عن طريق سعد مكاوى وعبد الرحمن الشرقاوى، إذ كان صديقاً لهما، بحكم كونه أديباً وشاعراً وصحفياً هو الأخر. وكان يحضر لزيارتهما فى مقر لجنة القراءة بمؤسسة السينما، فتعرفت به، ونشأت بيننا علاقة مودة وصداقة واحترام.
 على أن أعجب ما حدث فى قة علاقتى بمحمد على ماهر، هو ما حدث يوم ذهابى - أنا والشرقاوى ومكاوى، لزيارته والسؤال عن والده الحاج ماهر، الأب، أو عرفت عنه شيئاً حتى ذلك الحين، ولكن الشرقاوى وسعد مكاوى، حدثانى عنه، فقالا إنه رجل من أولياء الله الصالحين، شيخ طريقة، من الصوفية الشاذلية، وأن له كرامات مشهودة، ومكشوف عنه الحجاب. وخشيت، وأنا شخص شيوعى ماركسى ملحد أن أتقابل مع مثل هذا الرجل، فيكتشف إلحادى، ويسئ لقائى، ولكنهما هونا على الأمر، فذهبت. كانت الزيارة فى شقة الحاج ماهر الأب فى الروضة. وكنا كثيرين، أنا والشرقاوى وسعد، وكان هناك محمد على ماهر، وشقيقاه، عبد العزيز، وشمس، وآخرين. دخلنا تباعاً إلى حجرة الرجل المريض، وكان يرقد على سريرة متكئاً على وسائده، سلم عليه الشرقاوى، وسعد، وجلسا كل على مقعد بالغرفة، ثم دخلت أنا وسلمت على الرجل، وقال له محمد وأنا مازلت أصافحة:
 -هذا صديقنا الأستاذ محمود توفيق،الشاعر، والمحامى، جاء يسلم عليك.
 سمع الرجل هذا الكلام وكانت يدى ما تزال فى يده، فضغط يدى واستبقاها فى يده، وجذبنى فجلست إلى جواره على السرير. وظل طول الوقت ممسكاً بيدى وكان يولينى أنا وحدى باهتمامه رغم وجود الكثيرين حوله بالغرفة. ثم مال إلى جوار سريره من الناحية الأخرى، فأمسك بعصا غليظة- سلامية - كانت مركونة على الحائط، وأتى بها، ثم طلب منى أن أمسك بيدى يدها المعقوفة، فلما فعلت، وضع يده على يدى وهى فوق العصا، واستمر فى كلماته المقتضبة مع الآخرين. بعد قليل أومأ إلى فاقتربت منه، فقال لى:
 -إذا تعرضت لأى مكروه، فإليك بهذه الآيات، فاقرأها ينصرف عنك كل آذى.
 وبدأ يلقننى تلك الآيات، ابتداء من فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، وآية الكرسى. فقلت له:
 -حاضر.. سمعاً وطاعة.
 وانصرفت أنا ومن معى من الزوار.
 وبع ذلك، لم يكف محمد على ماهر، عن التعليق على ما حدث، وابداء تعجبه منه، كان يقول:
 -لا تظن أن ما حدث كان صدفة أو أمراً مرتجلاً، فالحاج ماهر لم يفعل هذا مع أى إنسان سواك، ولا حتى مع أحد من أبنائه، ولا حتى معى. هو فعل ذلك معك، لأنه أحس بأن فيك شيئاً لله. وقد أعطاك العهد، وهذه العصا التى جعلك تمسك بها لم يلمسها أحد غيره سواك، ولا حتى أنا.
 ومنذ ذلك الحين، تغيرت نظرة محمد على ماهر لى، وعلاقته بى. كنت قد أصبحت بالنسبة له، ولياً، أو شبه ولى، من أولياء الله الصالحين. كل ما فى الأمر، أننى كنت ماركسياً لينينياًز ويقول ماهر: وماله .. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى. صدق الله العظيم.
  وها أنذا أبيت فى الصومعة التى كان يقيم فيها الحاج ماهر، الوالى الصوفى الشاذلى. بل ربما أنا أنام الآن على سريره، ولم يكن قد مضى على وفاته إلا عام واحد أو عامين. رحمه الله..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق