ذكريات شاعر مناضل: 31- الهروب

31- الهروب

  عدنا إلى القاهرة، وعادت الأوضاع إلى سابق عهدها، فلم يكن أمامنا شئ آخر. وبدأنا نلتقى من جديد، ولكن العلاقات كان يغلب عليها الفتور.
 بعد أسبوعين من عودتنا، حضر الرفيق عامر عبدالله من بغداد، وطلب أن يلتقى بنا، وتقرر أن نلتقى به على دعوة للعشاء فى مطعم للأسماك هو مطعم سى هورس، الواقع على النيل فى منطقة المعادى، وحضر اللقاء، أنا والرفيقان ناشد وأبو زيد، والرفاق سالم من مجموعتى، وإبراهيم من مجموعة ناشد، وعصام من مجموعة أبو زيد. وكان الجو لطيفاً، ومنظر النيل ساحراً، والعشاء شهياً، والأحاديث ودية هادئة. واستراح عامر إلى الوضع، واعتبره بشيراً بعودة الوئام إلى صفوف الجزب، ولكنه حين مال على ونحن فى الطريق إلى حمام المطعم سائلاً: كيف الحال؟ أجبته بإيجاز قائلاً: سبحان علام الغيوب.
 وسافر عامر، واستمرت الأحوال على ما كانت عليه. وكان الوضع العام فى البلاد يزداد تدهوراً. فالسادات يزداد تهجماً وعداء للاتحاد السوفييتى، ولسوريا، وارتماء فى أحضان أمريكا، وأعوانها فى المنطقة، بحجة أن أمريكا تملك 99% من أوراق الحل لمشكلة الشرق الأوسط، وأن مصر، والعرب، والاتحاد السوفييتى، والعالم كله، لا يملكون شيئاً من تلك الأوراق. وكيسنجر- وزير الخارجية الأمريكى- الصهيونى - يروح ويجئ - وهو يبدو مسيطراً تماما على مجريات السياسة الخارجية المصرية. وفى الداخل، تزداد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تدهوراً، وتغوص البلاد فى مستنقع الانفتاح الاقتصادى، أكثر فأكثر، وتمسك الفاقة وسوء الأحوال، بخناق الأغلبية الساحقة من المصريين. كل هذا بينما يقف الحزب الشيوعى، وغيره من التنظيمات الحزبية والجماهيرية، موقف العجز عن فعل شئ يوقف حالة التدهور المتواصل.
 وفى يوم 17 يناير سنة 1977، طالعتنا الصحف بأخبار سارة ومبشرة، عن أن الحكومة بصدد إصدار مجموعة من القرارات الاقتادية، لرفع المعاناة عن الجماهير، وتحسين أوضاعها المعيشية. وتفاءل الناس خيراً، وباتاوا ليلتهم وهم ينتظرون الفرج فى الصباح.
 غير أن صباح يوم 18 يناير جاءهم بالحقيقة الصادمة، إذ صدرت الحف وهى تحمل فى صدر صفحاتها قوائم بعشرات، أو مئات، من السلع التى تقرر رفع أسعارها على نحو صادم. وما أن طلع النهار، حتى هبت المظاهرات الصاخبة الغاضبة فى كل الأنحاء، وكل الأحياء، وكل المدن، وخاصة فى المناطق العمالية، والضواحى الفقيرة.
 ومر ذلك اليوم، صباحه ومساءه، والظاهرات تزداد قوة وعنفاً، والمصادمات تتزايد بين المتظاهرين، وبين رجال الشرطة الذين حاولوا ايقافها وتفريقها، دون جدوى. ونقلت الأخبار والشائعات أخباراً مروعة عن عدد القتلى والمابين من المتظاهرين ورجال الأمن، وعن حوادث التخريب والسلب والنهب. بما لم يكن له مثيل من قبل منذ أحداث 26 يناير سنة 1952، المسمى بحريق القاهرة.
 ومنذ البصاح الباكر من اليوم التالى 19 يناير 1977، استأنفت الاضطرابات اندلاعها، وعجزت قوات الأمن عن التصدى لها أو إيقافها، وتزايدت أعداد القتلى والمصابين، وأحداث التدمير والتخريب والسلب والنهب اشتغالاً. ولم تجد السلطات بدا من الأمر بنزول قوات الجيش إلى الشوارع لقمع المظاهرات، بعد ان عجزت قوات الأمن عن ذلك. وكان ذروة التدهور فى خطورة الأوضاع.
 فى اليوم الأول 18 يناير، صباحاً، كنت بالصدفة، فى زيارة لعبد الرحمن الشرقاوى، وكنت اجلس معه بمكتبه بدار روز اليوسف، ومعنا عدد من العاملين فى الدار: صلاح حافظ، أحمد حمروش، حسن فؤاد، وآخرون، حين هاجم المتظاهرون الدار، محاولين إشغال النار فى المبنى كله، بما فيه المطابع والمخازن والمكاتب. والتف المحررون والعمال حول المبنى، واستطاعوا - بعد جهد جهيد أن يدفعوا المتظاهرين بعيداً عنه. واشتركنا - أنا والشرقاوى وزملاؤه - فى إقناع الجماهير بعدم التعدى على الدار، مؤكدين لهم أن روز اليوسف هى أول صحيفة تدافع عن حقوق العاملة والفقيرة.
 فى اليوم الثانى، وبعد الظهر، كنت بالمنزل أتابع الأخبار وتطورات الموقف، حين حضر لزيارتى كل من ناشد، وأبو زيد. وبعد أن جلسوا ودخلنا فى الحديث، واستعرضنا تطورات الأوضاع الجارية، ومدى خطورتها، انتقلنا إلى محاولة تقييم تلك الأحداث، وإلى التوقعات المنتظرة لتطورات الموقف.
 فوجئت بالرفيق ناشد، وهو ينقل إلينا أنباء عن مدى الذعر الذى يسيطر على الحكومة، وعن اتصالات تمت بينها وبين بعض العناصر اليسارية والعمالية، للاستنجاد بها على تهدئة الأوضاع. وأعرب عن تفاؤله بنجاح تلك الاتصالات، وقرب استدعائنا للاشتراك فى السلطة للقيام بهذا الدور.
  ورغم علمى، بحالة التفاؤل المفرط التى تنتاب الرفيق ناشد إزاء مثل هذه الأحداث، إلا أننى اندهشت جداً لهذه الدرجة من التفاؤل الذى لا أساس له من الواقع. وجعلت أسأله عن مصدر تلك المعلومات، فصرح لنا بأن مصدرها، هو حزب التجمع.
 وجدتنى أنبرى للرد على هذه الأقوال، وللتعبير عن وجهة نظر معارضة لها، وقلت إننى أتوقع أن تتمادى الحكومة فى موقفها، وأن تحاول استغلال تلك الاضطرابات فى توجيه ضربة شديدة لليسار، وللشيوعيين، ولنا بصفة خاصة.
 وتدخل أبو زيد فى الحديث، فقال إن رأيه أن كلا الأمرين واردان، وارد أت تلجأ الحكومة إلينا للمشاركة فى مواجهة الأزمة، ووارد أيضاً أن تستغل الحكومة الأحداث فى توجيه ضربة أمنية إلينا.
 وهكذا بقى الأمر متأرجحا بين، وبين. ووجدتنى أنقل الحيث إلى نقطة أخرى، هى التساؤل، عما سوف يفعله كل منا فى مواجهة الخطر المترتب على التطورات المحتملة. هل نبقى، أم نهرب من القبض علينا؟ وبادر أبو زيد بالقول: إنه لا يفكر فى الهرب، فوضعه القانونى والسياسى يمنعه من مجرد التفكير فى الهرب، أنه سيواجه الموقف مواجهة فانونية.
 أما الرفيق ناشد، فصرح بأنه قد أعد عدته للهرب، رغم ثقته فى أنه لن يحدث ما يستدعى الهرب، ولدية مكان آمن معد لهربه، وترتيبات كافية لتأمين هروبه.
 وأما أنا فقلت إننى متوقع للقبض علينا، وإننى شخصياً أرغب فى الهرب. ولكن ليس هناك أى ترتيب لهربى، فالأمر إذا يتوقف على الظروف. وخرج الزميلان منصرفين، قبل أن تحل ساعة منع التجول التى كان قد أعلن عنها.
 فى هذا التوقيت، تلقيت مكالمة تليفونية من الأخ عبد الرحمن الشرقاوى، يطلب رأيى فيها، أو اقتراحى، بالكيفية التى يتعين على الحكومة أن تلجأ إليها لمعالجة الموقف، وأحسست من لهجته، أنه مطلوب منه - حكومياً - استطلاع الرأى لدى بعض أصدقائه - وربما كنت أنا أحدهم - فقلت له مؤكداً، يجب على الحكومة أن تبادر بإعلان عدولها عن قرارات رفع الأسعار. سمع هذا الرأى، وأبدى إقراره له، وشكرنى، ثم أنهى المكالمة. وبقيت أنا فى المنزل، أنتظر تطورات الأوضاع، ولم يكن فى ذهنى أى شئ حول ما يجب على عمله.
 بقيت فى المنزل، أتابع أخبار الموقف فى التليفزيون، أو فى الإذاعات الأجنبية، خاصة إذاعة لندن العربية، أو إذاعة مونت كارلو. وكانت فكرة الهروب تراودنى ولكننى كنت أدرك صعوبتها، إذ أن الخروج أصلاً من العماره التى أقطن فيها، والسير فى الشارع هما من رابع المستحلات، ففى مواجهة عمارتنا كان هناك سكن لطلبة الجامعة المغتربين، عليه حراسة مشددة، ويوجد أمام بابه كشك به رجال أمن، لاشك أنهم على صلة بالمباحث. كما أن الشارع الذى أقيم به، والشوارع المتصلة به، كانت تحت رقابة المباحث بواسطة المرشدين المنبثين فيها من المكوجية، وأصحاب أكشاك السجاير والمرطبات.. إلخ، وكنت أعرف يقينا أنهم مكلفون بمتابعة تحركاتى والإبلاغ عنها.
 جلست مع أفراد عائلتى، زوجتى وأولادى الثلاثة نتداول فى الموقف، وكانوا جميعاً متفهمين لتقديرى الموقف، ماعدا منى، ابنتى الصغرى، التى كان يبدو عليها الجزع لاحتمال القبض على، وهو ما شاهدته قبل ذلك وتخشى حدوثه.
 قلت لهم إن الخروج من باب العمارة، والسير فى الشارع، ثم فى الشوارع عموماً أصبح مستحيلاً بعد إعلان حظر التجول، وأنه للهروب إذن فلابد من الهروبمن العمارة، لا إلى أسفل، وإنما إلى أعلى. وشرحت لهم هذا التصور، فى أنه للهروب، لابد من الصعود إلى سطح عمارتنا، ثم القفز منه إلى سطح العمارة المجاورة، ثم البقاء فيها لدى أحد سكانها حتى يتيسر بعد ذلك الخروج منها. وكنا مازلنا نتداول فى ذلك حين رن جرس التليفون وردت عليه سهير زوجتى، وكان ذلك فى حوالى منتصف الليل. كان المتحدث هو محمود صديق شقيق زوجتى، وقد أبلغ سهير على عجل بأنه تلقى مكالمة من درية، لإبلاغى بعدم المبيت فى المنزل. وكانت درية هى زوجة كمال- اللواء بالشرطة، وابن خالة سهير، وفهمنا أنه هو الذى كلف درية بإبلاغنا بتلك الرسالة. ومعنى ذلك، أنه قد عرف، يقيناً أو تخميناً. باننى سوف أعتقل فى تلك الليلة، وأنه ينصحنى بالهروب. وكان كمال شخصاً رزيناً ومخلصاً، ومحباً لى ولعائلتى، وكان لرأيه وتقديرة أهمية كبيرة لدينا.
 ماكدنا نتلقى تلك المكالمة حتى عدت أراجع الموقف. وكنت أجلس مرتديداً بدلة الخروج كاملة، ومعى معطف ثقيل أضعه على مقعد بجوارى، إذ كنا فى يوم 20 يناير، والبرد على أشده.
 ثم سمعنا صوت سيارة تتوقف أمام باب العمارة، وصوت نزول أشخاص منها، ولاحظ أبنائى أن بعض حرس بيت الطلبة قد توجهوا إلى ركاب السيارة، وتبادلوا معهم بعض الكلمات، ثم بدأنا نسمع صوت دبيب أقدام صاعدة على سلم العمارة. ونظرت إلى وجه ابنتى منى، فراعنى اصفراره، وتعبير الفزع المرتسم عليه، ثم سمعتها تقول فى توسل: دول طالعين يا بابا، أهرب يا بابا .. اهرب.
 ما أن سمعت كلمات منى، حتى وجدت يدى تمتد إلى المعطف الموجود على مقعد بجوارى، ووجدتنى أختطفه، وأهرع إلى باب الشقة فأفتحه وأنسل منه إلى السلم، وأرد الباب خلفى دون صوت، ثم أصعد متسللاً على السلم. كانت شقتنا فى الدور الرابع، وفوقها دور خامس، ثم السطوح، حين بلغت السطوح، كانت قوة الشرطة قد توقفت أمام باب شقتنا وبدأت تطرقه بطرقاتها الغليظة المعروفة، وكنت أتابع هذه التحركات بسمعى وكأننى أراها بعينى.
كنت دخلت سطوح عمارتنا، وكان الظلام دامساً والبرد شديداً.
 ومع ذلك فقد استطعت أن أجد طريقى إلى الحائط الذى يفصل عمارتنا عن العمارة المجاورة. وكان الحائط الذى يفصل بين العمارتين متوسط الارتفاع، لبست معطفى، وتوجهت لأقفز إلى أعلى الحائط، ثم أقفز منه إلى سطح العمارة المجاورة. ثم وأنا أهم بالقفز خطر لى خاطر مزعج، فشببت على قدمى لأنظر وراء ذلك الحائط، وفعلت، فإذا لى أرى وراءه منوراً يفصل بين العمارتين، فتراجعت سريعاً، وتوجهت إلى موقع أخر، وشببت فوجدت أن هذا الموقع يتصل بسطح العمارة المجاورة. وكنت قد تجاوزت الخمسين من العمر، وفقدت الكثير من لياقتى البدنية، مع ذلك، فقد نجحت فى التسلق والقفز إلى السطح الآخر.
  كان الظلام شبه دامس، ولكننى استطعت على ضوء بعض الأشعة النافذة فيه، أن أرى أمامى معالم شقة صغيرة فوق السطوح، هى التى يقيم فيها بواب تلك العمارة وأسرته. ورأيتها مظلمة وسمعت داخلها شخير سكانها النائمين، ولبثت برهة أفكر فيها أفعل، إلى أن رأيت أمامى باباً موارباً لغرفة ملحقة بشقة البواب. فتوجهت إليها، ونظرت داخلها، فأدركت بصعوبة، أنها غرفة مطبخ ملحق بتلك الشقة. فدفعت بابها برفق، ودخلت، ثم رددت الباب خلفى برفق، ووقفت انتظر فى الظلام. وأثناء تحسسى لما حولى، وجدت عموداً من الحديد موضوعاً على منضدة. لسبب ما، فأمسكت به، وقررت أن أتخذه سلاحاً أحتمى به عند اللزوم. ثم بقيت ساكناً أدرس الموقف بسمعى وحده.
 مر الوقت، وقدرت أن رجال الشرطة الذين دخلوا إلى شقتى قد فرغوا من تفتيشها، بعد ذلك سمعت وقع أقدام صاعدة على سلم عمارتنا، ثم ماشية على السطوح، وبعض كلمات متبادلة، فقدرت أن رجال الشرطة قد صعدوا للنظر فى السطوح، باحتمال أن أكون قد صعدت إليه، ولكن وقع الأقدام قد اتجه إلى النزول.
 مكثت قرابة ساعة واقفاً فى مطبخ شقة البواب انتظر، ثم خبل إلى أنى أسمع صوت ابنى يوسف وهو يهمس بصوت خفيض: بابا..بابا.. وكدت أرد عليه، ولكنى آثرت ألا أفعل، مخافة ألا يكون هو. وحمدت الله على أنه قد أخذ طريقه نازلاً إلى شقتنا. وعلمت فيما بعد أنه كان هو بالفعل، وأنهكان يريد أن يبلغنى بأن رجال الشرطة قد انصرفوا بعد أن يئسوا من العثور على فى الشقة، وبعد أن قاموا بتفتيشها. وحمدت الله على أننى لم أكن مضطراً إلى ضرب ولدى بعمود الحديد، فى الظلام الدامس، ظناً منى أنه من رجال الشرطة.
 كنت انتظر وأنا أكاد أن أتجمد من البرد، لولا المعطف الثقيل الذى كنت ارتدية. وكنت أتابع مرور الوقت عن طريق دقات ساعة جامعة القاهرة، التى تقع على بعد بضعة كيلو مترات من موقعى، دقاتها كل ربع ساعة، ثم كل ساعة، إلى أن دقت الثالثة بعد منتصف الليل، فرأيت أنه لا داعى للانتظار أكثر من ذلك.
 تسللت خارجاً من المطبخ، إلى أن وصلت إلى الباب الموصل بين سطوح تلك العمارة، وبين سلمها. ومن حسن الحظ أنه لم يكن موصداً، بل مقفولاً بأكرة بسيطة، فتحتها ودخلت إلى السلم. ثم تحسست طريقى فى الظلام ونزلت دوراً واحدً، إلى أن وصلت إلى باب الشقة التى كنت قد قررت اللجوء إليها. ثم بدأت أنقر شراعة الباب نقراً خفيفاً وأنتظر، ثم أعود إلى النقر عليه مرة أخرى. تكرر ذلك إلى أن رأيت نور ردهة الشقة يضاء، وسمعت صوتاً رفيعاً يقول: مين..مين اللى بيخبط؟ فاجبت بصوت تعمدت أن يكون مسموعاً، ولكن دون ارتفاع:
  -مها..افتحى..أنا أونكل محمود.
 ووجدت حبيبتى مها، صديقة وزميلة ابنتى ليلى تفتح. فقلت لها:
 -معلهش يا مها، ممكن أبات عندكم الليلة؟
 أجابتنى الفتاة الشجاعة، وكأنها عرفت وتفهمت الموقف. ودخلت. ثم جاءت أختها الأصغر هالة، ثم أبوها الأستاذ محمد عطية - وكان جاراً طيباً من رجال التعليم، وقاموا كلهم بالترحيب بى، وأخلوا لى غرفة نوم، دخلت إليها، فخلعت معطفى وحذائى فقط، ثم أرتميت على السرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق