ذكريات شاعر مناضل: 33- ما وراء الطبيعة

33- ما وراء الطبيعة


   انقضى النهار التالى، وتفقدت خلاله المكان، والحديقة الكائنة حوله، والشرفة الخلفية الهادئة التى تطل عليها. وسرنى كل ذلك، فقد وجدت من الهدوء والسكون والوحدة، ما كنت أحتاج إليه.
 بعد أذان العصر بقليل، دخل شاب يافع حسن الصورة، وهو يحمل سبتاً من الخوص، حيانى، وقدم إلى السبت قائلاً:
 -هذا غداؤك. تفضل.
وشكرته ثم سألته عمن هو فقال:
 -أنا أيمن، ابن الأستاذ محمد ماهر على. ثم استأذن منصرفاً وهو يسألنى عما إذا كنت أريد شيئاً أخر. فشكرته، وانصرف.
 وجدت فى أعلاالسبت لفالة من القماش، ملفول فيها عدة أرغفة من الخبز الطازج، ووجدت تحتها طبقاً من الصينى، به كمية كبيرة من الأرز المفلفل، وقد رصت فوقه أجزاء أرنب محمر كبير. ثم وجدت فى أسفل السبت سلطانية من الصينى، عليها غطاؤها، كشفت الغطاء، فوجدت السلطانية مليئة بملوخية ناشفة مطهية، ومازالت ساخنة، تفوح منها رائحتها الطيبة المعروفة. وأخيراً، وجدت برطماناً من الزجاج، يحتوى على زيتون وليمون مخلل. لزوم فتح الشهية.
 كانت كمية الطعام كبيرة جداً بحيث أنها تكفى لخمسة أو ستة أشخاص، لا لشخص واحد. وكان فى الحجرة بضعة صحون فارغة، وبعض الملاعق والشوك والسكاكين. فغرفت لنفسى صحناً من الأرز، وضعت عليه القليل من الملوخية، ووركاً من الأرنب، وأخذت ربع رغيف من الخبز، وزيتونه مخللة، وجلست إلى منضدة صغيرة بالغرفة، وأكلت محتويات الصحن، فشعرت بعدها بالشبع والامتلاء، رغم أن الطعام كان شهياً للغاية. قمت بوضع الأوانى فى السبت، وذهبت إلى الحمام المهجور، فغسلت يدى وفمى، وعدت إلى الحجرة فأشعلت سيجارة بلمونت. ثم استقليت على السرير، وأخذتنى سنة من النوم.
 قبل أذان المغرب، عاد أيمن، وسألنى عما إذا كنت قد تناولت غدائى، فلما أجبته بالإيجاب، سألنى عما إذا كنت أريد شيئاً، فشكرته، وأخذ السبت ثم انصرف.
   بعد أذان المغرب حضر الأستاذ محمد على ماهر ، فسلم على، ودخل إلى غرفة المصلية، ودخلت معه، وكنت متوضئاً، ثم تقاطر المصلون، فصلوا خلف ماهر، وكنت معهم فى الصلاة. صلينا المغرب، وبعدها العشاء، وبعد انصراف المصلين، جلس ماهر معى فى الغرفة الداخلية، وسألنى عن أحوالى، وكيف أمضيت ليلتى، وكرر السؤال بطريقة لفتت نظرى. ثم سألنى، لماذا لم آكل طعام الغداء، فقد لاحظ أننى أعدته كما هو تقريباً، كما لاحظت ذلك زوجتة أيضاً. وسألنى عما إذا كان الطعام لم يعجبنى، أم ماذا؟ فأجبته بأن الطعام ممتاز، ولكن هذه هى قدراتى فى الأكل، خاصة وأننى لا أكاد أمارس أى حركة أو نشاط، مما يدفع الناس إلى الإفراط فى الأكل.
 جلس ماهر معى بعض الوقت، ثم استأذن منصرفاً بعد أن سألنى عما إذا كنت أريد شيئاً، فشكرته، وانصرف.
 كان الوقت قد تأخر، وكانت الليلة شديدة البرودة، فقد كنا فى أول فبراير، وجو حلوان قارى، شديد البرودة فى ليل الشتاء، وإن كان دافئاً مشمساً فى نهاره، وكانت هناك، فى الحجرة مدفأة كهربائية صغيرة مهملة، أوصلتها بكوبس كهربائى وجدته بالحائط فاتقدت، وتركت باب الغرفة موارباً، ثم جلست على السرير، وكان معى جهاز راديو تزانزستور صغير فى حجم الكف كنت اسمع عليه محطات الإذاعة الأجنبية، وما تبثه من نشرات الأخبار، إذاعة لندن، مونت كارلو، إذاعة ليبيا، إذاعة بغداد، وكانت كلها تتابع باهتمام ما يحدث فى مصر، بعد أحداث الانتفاضة وما أعقبها من تطورات وردود أفعال. وكان جهاز الراديو غير دقيق وبه شوشرة كثيرة نتيجة التشويش عليه، أو نتيجة بعض الخلل فيه، ولكنى كنت استعين على تحسين أدائه بحشر عود ثقاب فى موضع معين منه.
 أدرت الراديو ثم خلعت الجبة، واستقلبت بالقفطان على السرير، وتدثرت بالبطانية، وبدأت اسمع الإذاعات، إلى أن النوم يراودنى. وهنا بدأت أدخل فى "الحالة".
 بدأت خشخشة جهاز الراديو تزداد، إلى أن كاد يتوقف تماماً، وبدأت إضاءة المصباح الكهربائى وفتيلة المدفأة الكهربائية ينتابها بعض الاضطراب، ثم بدأت "أشعر" بتغير ما يحدث فى جو الحجرة، مجرد إحساس بسكون كثير يخيم حولى ، ويحجب عنى الأصوات المألوفة فى مثل هذا الجو، وكأن خيمة من قماش شفاف عازل قد ضربت حولى، وبدأت "أحس" - مجرد :إحساس" أننى لم أعد وحدى فى المكان، أصوات ضعيفة جداً كأنها مجرد حفيف أوراق شجر، أو رفيف أجنحة طيور صغيرة، أو فرشات تحوم أو تهيم حولى، ثم نوع من طنين ضعيف يحف بى، وكأنه طنين نحل.
 وكنت راقداً على السرير متدثراً بالبطانية، وبدأت أشعر بأن ساقى وذراعى مثبتان على الفراش بحيث لا أستطيع تحريكهما مهما حاولت، حتى كفى، وحتى أصابع يدى، مثبتتان وكأنها ملتصقة على الفراش بمادة لاصقة كالغراء. أحسست بأننى خاضع لنوع من المخدر أو البنج.
  ثم بدأت أشعر بموجات من الدفء تنساب فى قدمى وساقى جيئة وذهاباً من القدمين إلى ما فوق الركبتين، ثم بدأت أحس بموجات من الذبذبات الضعيفة تسرى فى ساقى فى نفس المناطق ونفس الطريقة، كل هذا وأنا مثبت فوق الفراش لا أستطيع حراكاً بأى حال، بينما كل حواسى متيقظة وذهنى شديد الانتباه.
 واستمرت هذه الحالة حوالى ربع ساعة، وكأنها جلسة علاج طبيعى بأجهزة كهربائية خاصة. ثم بدأت فى الخفوت والزوال، إلى أن انتهت تماماً، وعدت إلى حالتى الطبيعية، مع إحساس بشئ من الراحة والعافية، وإن كان مشوباً بشئ من الإجهاد.
 لم يكن هناك شئ يرى بالعين، ولا يسمع بالأذن، ولكنه كان شيئاً يدرك بالإحساس، مجرد وجود خافت رقيق رهيف، ولكنه وجود مؤكد عاقل واعى، وكان يخضعنى لنوع من الممارسة ذات طبيعة علمية أو طبية، ظهرت آثارها الإيجابية بعد ذلك على حالتى الصحية والمعنوية.
 بعد انتهاء الحالة، أو الجلسة، بقليل، وجدت نفسى أغرق فى سبات عميق، لم أستيقظ منه إلا على أصوات الطيور، العصافير، واليمام المغردة على الأشجار والشجيرات المجاورة. وكنت أشعر بالخفة والنشاط، رغم ما عنيته من إجهاد جسدى وعصبى فى الليلة السابقة.
 مر اليوم بشكل عادى، كما مر اليوم السابق، وجاء الليل، ووجدتنى أشعر بشئ من القلق والتوتر، متوقعاً أن يتكرر ما حدث لى فى الليلة السابقة، وأخذت أستعد لذلك، ولكن- لعجبى، لم يحدث ذلك الشئ، ومرت الليلة بصورة عادية تماماً.
  أقمت فى صومعة الحاج ماهر شهراً كاملاً- هو شهر فبراير سنة 1977. ومرت الأيام مرور الكرام، فى الصباح كنت أتناول إفطارى من المنين والجبن الأبيض، الذى كان قد احضرهما لى الأخ محمد هجرس، ثم أخرج إلى الشرفة الخلفية لهذه الشقة، التى كانت نصف فيلا قديمة من الطراز الذى كان شائعاً فى حلوان، فيما كان النصف الآخر من الفيلا تسكنه إحدى العائلات التى لا يسمع منها أى صوت. وكانت تلك الشرفة تطل على حديقة خلفية كبيرة، من نوع الحدائق المهملة التى كنت أحبها. هناك أجلس، لأحتسى الشاى الذى أصنعه لنفسى على موقد الغاز الصغير، وأمسك بكتاب أقرأ فيه، حتى يحضر أيمن، الابن الأصغر للأخ ماهر وهو يحمل سلة الغداء بعد أذان العصر. وكانوا قد بدأوا يقللون من كمية الطعام بناء على طلبى.
  كنت قد طلبت من ماهر أن يمدنى ببعض الكتب التى تعرض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت عنده مكتبة عامرة بالكتب الإسلامية بحكم تخصصة فى تأليف الدراما الإسلامية للإذاعة، وأمدنى ماهر أولاً كتاب "حياة محمد" للدكتور هيكل، وقرأته فأعجبت به أشد الإعجاب، ثم أمدنى بعد ذلك :بسيرة ابن هشام"، وهى المرجع الأهم فى كتب السيرة النبوية، فاستغرقت فى قراءته، واستغرقنى هذا السفر العظيم الشهر الذى قضيته فى تلك الصومعة الرائعة.
  وفى الليل يحضر ماهر، فيصلى بأتباعه، وأنا منهم، صلاتى المغرب والعشاء، وفى ليالى الجمعة، كانوا يقيمون حضرة، وهى جلسة ذكر، لم أكن أشارك فيها لجهلى التام بما كانوا يرتلونه فيها من الأذكار والتراتيل، وكان ماهر يغطى غيابى، بأن يقول لهم، إننى من أتباع مذهب صوفى لا يتخذ من هذه الأذكار طريقاً للعبادة.
 فى الليالى، لم تكن "الحالة" تتكرر كل ليلة، بل كانت - للعجب - تحدث ليلة وتتخلف ليلة، بحيث لا تحدث ليلتين متتاليتين، وكأنها جلسات علاج كهربائى أو إشعاعى لا تعطى إلا بقدر محسوب، وهذا ما أكد لى، أن الكائنات الخفية التى كانت تمارسها معى، أيا كانت، فهى كائنات عاقلة واعية.
  لم يكن ماهر يسألنى أسئلة مباشرة عن تلك الحالات، ولكنى كنت أشعر أنه يعرف بما يحدث فيها، إما من تجربته المباشرة، وإما نقلاً عما كان يعرفه من والده الراحل، الحاج ماهر، صاحب هذا المكان.
 وكنت قد بدأت أهتز تحت وطأة هذه الجلسات، التى أخذت مدتها تطول شيئاً فشيئاً، حتى بدأت المدة تقارب الساعة كاملة، مما كان يصيبنى بالتعب والإرهاق، إلى درجة أننى فى إحدى هذه المرات وجدت نفسى أقول لزوارى بصوت مسموع: كفاية كده، أنا تعبت. وعلى أثر ذلك توفقت الممارسات الحرارية، والذبذبات، وانتهت الجلسة.
  وكنت قد طلبت من الأخ ماهر، ومن نجله العزيز، الدكتور على مرتضى، الذى كان طالباً بكلية الطب، وكان يحضر لزيارتى والجلوس معى لبعض الوقت من حين لآخر، طلبت منهما البحث لى عن مكان آخر أنتقل للإقامة به، حيث أن استمرار الإقامة لمدة طويلة فى مكان واحد، أمر لا يتفق مع مقتضيات الأمن. وبدأوا البحث، حتى اتدوا إلى مكان مناسب أخر، فى جهة أخرى من حلوان، وأخبرنى الدكتور على بأنه تعاقد عليه بأسمه هو ابتداء من الشهر التالى، مارس1977.
 فى الليلة الأخيرة التى قضيتها فى الصومعة، لم يكن من المفروض أن تأتى "الحالة" تلك الليلة، إذ أنها كانت قد حضرت فى الليلة السابقة، واستمرت فى تلك الليلة فترة طويلة تزيد على الساعة، وكأن أصحاب الشأن كانوا يعرفون بأننى سوف أغادر المكان بعد ذلك، فأرادوا- شكر الله لهم - أن يودعونى بجلسة مضاعفة. وفعلوا. ولكن فى تلك الليلة قرر الدكتور على أن يقضى الليلة معى، على السرير الأخر الموجود بالغرفة، ولم يكن قد سبق له المبيت فى هذا المكان من قبل، رغم أنه كان واقعاً على مرمى حجر من المنزل الذى يقيم به مع العائلة.
 ظللنا نتحدث، أنا والدكتور على لبعض الوقت، إلى أن بدأنا نتأهب للنوم، ونمت أنا بلا مشاكل. وصحوت فى الصباح، وكان على مازال نائماً إلى أن استيقظ بعدى بقليل. رأيته فارتعت، رأيت وجهه شاحباً مصفراً، ورأيته مضطرباً زائغ العينين. فسألته:
 -مالك يا دكتور؟
  فتردد قيلاً، ثم بدأ يروى لى ما حدث له، وكان هو ما سبق حدوثه لى تماماً، بحذافيره. كان يروى وأنا أهز رأسى مؤمناً على كل فقرة من كلامة، إلى أن أنتهى. وبدا عليه الاستغراب إذ وجدنى لا أبدى أى دهشة مما يقول، فسألنى:
 -انت مش مصدقنى ولا إيه؟
 فأجبته مؤكداً
 -مصدقك جداً
 فسألنى:
 -هل حدثت لك مثل هذه الحالة؟
 فأجبته:
 -طول الشهر الفائت وهى تحدث لى، مرة كل يومين.
بعد ذلك، ولمدة سنوات طويلة، كلما التقينا، أنا والدكتور على، أجده يعود فيذكرنى بهذا الموضوع، ويبدى دهشته من قدرتى على احتمال هذه الحالة لمدة شهر كامل، فى حين أنه كاد يموت فزعاً من حدوثها معه لمرة واحدة.
 بعد حوالى عشر سنوات من هذه الأحداث، وكنت أعمل مستشاراً لمنظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، دعيت أنا ورئيس المنظمة، الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، وسكرتيرها العام، الأخ نورى عبد الرزاق، إلى مأدبة عشاء أقامها السفير السوفييتى بالقاهرة، تكريماً للرفيق "كابيتزا" رئيس أكاديمية العلوم السوفييتية، ورئيس اللجنة السوفييتية للتضامن عند زيارته للقاهرة.
  ومن عادة الروس أن يمكثوا طويلاً على مائدة العشاء، وأن يتحدثوا أحاديث مطولة ما بين تناول أصناف الطعام، وتبادل الأنخاب، ووجدت نفسى أنتهز هذه الفرصة، لأعرض على الدكتور كابيتزا، وهو من أعظم الشخصيات العلمية فى العالم، المسأله التى ظلت تحيرنى لمدة سنوات.
  طلبت الكلمة، وقلت إن عندى موضوعاً يحيرنى ويحرجنى جداً منذ سنوات طويلة وأريد أن أتخفف منه بذكره للدكتور كابيتزا، رئيس واحدة من أكبر الأكاديميات العلمية فى العالم، لأسمع منه الرأى العلمى فيه، ثم رويت قصتى عن "الحالة" التى حدثت لى منذ عشرة أعوام، وكيف أننى ظللت أكتمها عن الآخرين حرجاً وخوفاً من ألا يصدقوننى، وأن يظنوا بى الظنون. وها أنذا أغامر بذكرها أمام هذا الجمع الكبير من الشخصيات الفذة، وأمام الدكتور كابيتزا بصفة خاصة.
 تمهل الدكتور كابيتزا فى الإجابة والتعليق، ثم فاجأنى بقوله:
 -كلا يا صديقى. لا داعى للخوف أو الحرج من أن تحكى لنا ما حدث لك، مهما كانت غرابته. فظواهر ما وراء الطبيعة، أصبحت الأن تنال اهتمام الدوائر العلمية فى كثير من البلاد. ونحن لدينا فى أكاديمية العلوم السوفييتية الآن ما نعرفة عن الكون الذى نعيش فيه هو أقل كثيراً مما نجعله.
 سمعت هذا الكلام فطابت نفسى واطمأنت. وتذكرت قول العزيز الحكيم
: بسم الله الرحمن الرحيم:
 "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" .
. صدق الله العظيم .
. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق