ذكريات شاعر مناضل: 40- فى ضيافة المباحث العامة

40- فى ضيافة المباحث العامة


  أخذنى الضابط مصطفى موسى، وزميل له، فى سيارتهما، إلى مقر المباحث العامة بديوان وزارة الداخيلية بلاظوغلى، وهناك صعدنا إلى مقر قسم مكافحة الشيوعية بالدور الثانى. أدخلونى إلى المقر، ثم إلى مكتب مدير الفرع، اللواء مصطفى كامل، ثم أرونى إحدى الغرف المطله على شارع نوبار بنافذتها الكبيرة ذات القضبان الحديدية السميكة، وأخبرونى أننى سوف أقيم معهم فى هذه الغرفة، المخصصة أصلاً لإقامة الضابط النوبتجى بالإدارة، خلال مدة بقائى معهم، التى يعتقدون أنها لن تطول. وكنت أعرف أن هناك تخشيبة للحجز فى مقر المباحث لحجز المتهمين الذين يتقرر حجزهم بالإدارة، ولكنهم- اكرمونى- بعدم إيداعى تلك التخشيبة، وباستضافتى فى حجرة الضابط النوبتجى بإدارتهم. وفهمت أن هذه إحدى ثمار لقائى بالسادات منذ أيام. وكان بالغرفة سرير سفرى مزود بمرتبة وملاءات نظيفة، تليق بضابط، وبها إضاءة جيدة، وملحق بها حمام صغير.
 وقيل لى إن القبض على، رغم قرار المحكمة بالإفراج عنى، إنما يجرى تطبيقاً لنصوص قانون الطوارئ، التى تجعل من حق جهة الأمن أن تطعن فى قرار الإفراج الصادر من المحكمة أو النيابة، فيوقف تنفيذ هذا القرار، لحين عرض الأمر على دائرة أخرى لتفصل فى نفاذ الإفراج أو إلغائه. وعلى ذلك فإن بقائى معهم سوف يستغرق فترة لا تزيد على شهر، وقد تقصر إلى أيام قلائل.
 وكانت سهير قد اتصلت بالشرقاوى فور القبض على بعد أنتهاء جلسة المحكمة، وأعلمتة بما حدث، فثارت ثائرته، ولبس ملابسه، وتوجه إلى قصر رئيس الجمهورية المواجه لمسكنه فى شارع الجيزة. وهناك دخل إلى مكتب فوزى عبد الحافظ، مدير مكتب السادات وروى له ما حدث، وقال له إنه يعتبر ما حدث إساءة بالغة إليه هو ، وأن الناس سوف يعتبرونه هو المسئول الآن عن حبسى، بعد أن تسبب فى خروجى من مخبئى لمقابلة السادات، ثم حدوث ما حدث. وقال لفوزى إنه- الشرقاوى- سوف لا يخرج من مكتب فوزى، إلا إذا عرض الأمر على الرئيس، وإلا إذا تم الإفراج عنى. وبالفعل قام فوزى عبد الحافظ بإبلاغ السادات، فى حضور الشرقاوى بكل ذلك، فقال السادات لفوزى:
 -الشرقاوى على حق، وسوف أصدر أوامرى فوراً بالإفراج عن محمود.
غير أن الإفراج قد تأخذ بضعة أيام، ظللت خلالها- ضيفاً على مقر المباحث العامة فى لاظوغلى.
 اتصلت بسهير تليفونيا من تليفون المباحث، فروت لى ما كان من أمر الشرقاوى، وشرحت لها وضعى فى مقر المباحث، وطلبت منها أن ترسل لى حقيبة ملابس صغيرة، بها بيجامتى، وروبى، وبعض القمصان والملابس الداخيلية، وبعض الأغراض الضرورية الأخرى. وفى خلال نصف ساعة، كان شقيقها محمد صديق قد حضر إلى مقر المباحث بسيارته، وأحضر لى الحقيبة، فقاموا بإدخالها إلى.
 كانت استضافتى فى مقر المباحث لمجرد الإقامة، أما الطعام فكنت أرسل جندياً خصصوه لخدمتى- ليشترى لى ما أشاء من الطعام أو اللوازم الأخرى كالسجاير وغيرها. وكانت معى نقود كافية، فكنت أرسل هذا الجندى، فيحضر لى غدائى، أو عشائى، من المطاعم الكثيرة المتوفرة فى المنطقة، الكباب، والكفتة، والسمك المقلى، أو حتى سندوتشات الفول والطعمية. وكنت حريصاً على أن أحضر قدراً كافياً من الطعام، أنال منه القدر اليسير، وأترك الباقى للجندى وزملائه من الجنود، فيأخذونه بسرور.
 وكان الضابط مصطفى موسى يصطحبنى كل صباح فى سيارة المباحث إلى مقر المحكمة، لأحضر الجلسة، ثم يعيدنى بعدها إلى محبسى فى مقر المباحث.
 وهناك فى المقر، كان الضباط جميعاً يحرصون على دعوتى للجلوس معهم فى مكتبهم، وتبادل الحديث معى، باعتبارى شيوعياً من نوع آخر، غير الذى يعرفونه. ولاشك أن مقابلتى للسادات كانت هى السبب فى هذا الاهتمام، وكثيراً ما كانت أحاديثم معى تدور حول هذه المقابلة، وما جرى فيها، إذ كانوا متلهفين فعلاً على معرفة كل ذلك. وكانت قد راجت إشاعات كثيرة حول هذه المقابلة، كان من ضمنها أن السادات كلفنى أنا والشرقاوى، بإقامة حزب جديد لليسار، بدلاً من حزب التجمع الذى لم يكن راضياً عنه. ولم يكن لهذه الإشاعة نصيب يذكر من الصحة، سوى كلمة عابرة ألقاها إلى السادات خلال حديثه، دون أن يركز عليها أو يتوقف عندها، قال فيها:
 -ما تعلموا حزب إذا كنتم عايزين، ما أنا صرحت بإقامة الأحزاب. ولكن هذه الإشارة قد مرت فى الحديث دون أن أتوقف أنا عندها، أو يتوقف السادات، ودون أن اعتبرها أمراً جدياًز
 كانت أحاديث الضباط، بما فيهم مدير الإدارة، تلف وتدور حول هذه المسألة، فى رغبة شديدة لمعرفة كل ما يتعلق بهذا اللقاء. وبما دار فيه، وما ينتظر من ورائه.
 ولكننى كنت متحفظاً. فأنا من طبعى التحفظ فى مثل هذه المواقف، كما أننى كنت أعلم أن كل كلمة أقولها وسوف تسجل على، ولم أرد أن يعرف عنى أننى شخص ثرثار أو متفاخر.
 فى خلال الأيام التى أقمتها فى المباحث، كنت اتجول بشئ من الحرية، من غرفة إلى أخرى، ومن مكتب إلى آخر، ورأيت عندهم مكتبة بها عدد لا بأس به من الكتب السياسية، اخترت منها كتاباً عن حريق القاهرة، لمؤلفه الصديق والزميل القديم الأستاذ جمال الشرقاوى، فاستأذنت منهم فى استعارته، فوافقوا وسألونى بشئ من الدهشة:
 -ليه الكتاب ده بالذات؟
فقلت لهم:
 -لأننى أعرف مؤلفه، وأتوقع أن يكون كتاباً جيداً.
ومن هذا الحوار اكتشفت أن أحداً منهم لم يقرأ هذا الكتاب، ولا ربما أى كتاب فى تلك المكتبة.
  على كل حال، كانت معاملة كل ضباط هذه الإدارة- ابتداء من مديرها اللواء مصطفى كامل، إلى سائر ضباطها، وبالطبع جنودها، كانت معاملتهم جميعاً لى، تقوم على الاحترام والتقدير والمودة، بل واللطف، وكنت أشعر أنهم جميعاً- أبناء لى- أو إخوة أصغر، وكنت أعجب كيف يستطيع هؤلاء الناس المهذبون، أن يتحولوا- كما يقال عنهم- إلى الشراسه والشر وايذاء الآخرين، فى غمضة عين، وكيف يستطيعون الجمع بين هذه الطباع، وبين وداعتهم التى أراها.
 بعد خمسة أيام، جاءنى الضابط ماجد الجمال، وأنا مستلقى على سرير الضابط النوبتجى، وقال لى:
 -أستاذ محمود، ألف مبروك، جاءت الآن الأوامر بإخلاء سبيلك، وسأصحبك الآن إلى منزلك، فتفضل.
 أخذنى الضابط ماجد الجمال، ومعى حقيبتى، فى سيارة كان يقودها بنفسه، وقادها نحو منزلى، دون أن يسألنى أى سؤال عن موقع هذا المنزل، إلى أن توقف لينزلنى عند باب العمارة، ومما أكد لى أنه يحفظ موقع منزلى تماماً.
 -سعدنا بالتعرف إليك جيداً خلال هذه الأيام، ونتمنى لك كل خير وسعادة. ولكن أرجو أن تسمح لى بكلمة: أحترس وخد بالك من نفسك كويس. مع السلامة.
 ونزلت إلى بيتى مرة أخرى. وكثيراً ما تذكرت تلك الأيام الغريبة التى قضيتها مع هؤلاء الضباط، ويتملكنى التعجب من هذا القدر من التهذيب والمودة الذى عاملونى به، وأتساءل: هل كان ذلك لمجرد أنهم مصريون أيضاً فى النهاية، أم كان للقائى بالسادات أثره فى كل هذه المودة وحسن المعاملة، أم كان لأدبى الشخصى مع كبيرهم وصغيرهم، وحسن تعاملى وتصرفى معهم، الأثر الأكبر فى سلوكهم معى؟

...
دأبت بعد ذلك على الحضور فى جلسات المحكمة، إلى أن انتهت الجلسات، وحجزت الدعوى للحكم. وقبل صدور الحكم علمت بوفاة الزميل السابق- ناشد زكى مراد، فى حاذث سيارة بالطريق الزراعى مصر إسكندرية، عند بلدة ايتاى البارود، ورغم غضبى عليه، فإننى قد حزنت لوفاته، وأسيت لحزن زوجته وأولاده الذين كنت أعرفهم جيداً. ولكنى قلت لنفسى، آه لو يعرف كل إنسان أن أجله قد يأتى فى أيه لحظة، وعلى غير انتظار! وعلى كل حال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
 ثم أخيراً أصدرت المحكمة حكمها التاريخى الشهير، وكان حكماً يليق بقضاء مصر الشامخ، وبالمستشار العظيم حكيم منير صليب، وزملائه أعضاء هيئة المحكمة.
 قضيت المحكمة ببرائتى، وببراءة معظم المتهمين، وحكمت بأحكام بسيطة على عدد من المتهمين الذين ضبطت لديهم أوراق أو منشورات تحض على التظاهر.. إلخ، ولكن أعظم ما كان فى الحكم، هو الحيثيات الرائعة التى أوردتها المحكمة تأسيساً لحمها، والتى قلبت المائدة على رأس النظام وأجهزته، فأسندت إليهم فى صراحة ووضوح، أنهم هم الذين تسببوا بأخطائهم وتصرفاتهم فى إثارة الجماهير، ودفعها إلى التظاهر والعنف، ثم قاموا بتلفيق هذه القضية واختلاقها، بإسناد أعمال هذا العنف إلى المتهمين وهم منها أبرياء.
 وأثار هذا الحكم عاصفة من التأييد والتقدير لدى الرأى العام، فاحتفت به الصحافه الحرة، كما تناولته بعض الأعمال الفنية والسينمائية بالذكر والتحية والترحيب.
 وتذكرت نصحيتى للسادات بالأمر بحفظ القضية حين لقائى به، وبتأكيدى له بأن القضاء سوف يحكم فيها ببراءة المتهمين.
 وها هى الأيام تثبت له صدق نصيحتى وحسن تقديرى، ولكنه بكل أسف لم يسمع للنصح، بل تمادى فى باطله، فقرر الاعتراض على حكم المحكمة، وأمر بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى- وفقاً لقانون الطوارئ. فأحيلت الدعوى لإعادة المحاكمة بالفعل، وتوفى السادات إلى رحمة الله، والدعوى محالة بالفعل.
 وقد توفى المستشار العظيم حكيم منير بعد إعلان هذا الحكم بسنوات، فحزنت عليه، وكنت بعد صدور الحكم، وقبل وفاته بسنوات قد كتبت قصيدة مدحته فيها، وإن لم أذكره بالاسم، وقد نشرت هذه القصيدة بجريدة الأهرام فى سنة 1983- وكان عنوانها: القاضى العادل وكان مطلعها:
عندما يظهر قاض عادل
تشرق الأرض بأنوار السماء
ويشيع الدفء فى أرجائها
ويرف الورد فى قلب الشتاء
ويرى الإنسان فى جوف الدجى
رحمة الله .. وفضل الأنبياء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق