ذكريات شاعر مناضل: 37- فى نجوى الرسول

37- فى نجوى الرسول


  أمضيت فى رحلة الهروب والاختفاء أكثر من عامين، ولم أقض هذه المدة كلها فى مكان واحد، وإنما تنقلت خلالها بين أماكن متعددة حسب الظروف ومقتضيات الأمان. قضيت الشهر الأول فى زاوية الحاج ماهر(الأب) فى حلوان، على النحو الذى جاء ذكره فى حينه. ثم قضيت أربعة شهور من مارس إلى يونية سنه 1977 فى المنزل الصغير الذى سبق لى وصفه- فى أطراف حلوان. غير أن عقد إيجار هذا المنزل- الذى كان الدكتور على مرتضى، الشيخ على، قد حرره بإسمه كان ينتهى بعد أربعة أشهر، فكنت مضطراً إلى تركه فى نهاية يونية من نفس العام. لذلك وافقت على العرض الذى تقدمت إلى به سهير- بناء على موافقة والدتها، أن تقوم هذه السيدة الكريمة، باستئجار شقة للمصيف بالإسكندرية، فقامت هى باستئجار تلك الشقة باسمها، وكانت تقع على كورنيش شاطئ المندرة الهادئ. ورتبت سهير لانتقالى أنا وهى إلى تلك الشقة فى الوقت المناسب، حيث لحق بنا أولادنا الثلاثه ليلى، ويوسف، ومنى.
ولكن قبل أن نصل إلى الإسكندرية فى أول يولية سنه 1977 وقع حادث خطير، هو اغتيال الشيخ "الذهبى"، على يد مجموعة من المتطرفيين الإسلاميين من تنظيم الجهاد، وبدأت الشرطة فى اتخاذ إجراءات استثنائية فى تعقب المتهمين- الهاربين- والبحث عنهم، كان منها حصر ومداهمة الشقق المفروشة فى مختلف المناطق بالقاهرة والإسكندرية. لذلك، فما أن قضيت ليلة واحدة فى شقة المندرة هذه،حتى داهمتها المباحث،وأنا فيها، فى الليله التالية، فى الساعة الثانية صباحاً. استيقظت وقتها على وقع طرقات قوية على الباب، وفتحت الست توحيدة، حماتى، فدخل عملاقان، بدا عليهما أنهما من ضباط المباحث، وزعما لها أنهما مستأجران قد حضرا لمعاينة الشقة تمهيداً لاستئجارها بعد مغادرتنا لها، واندافعا ينظران فى كل غرف الشقة، بما فيها الغربة التى كنت نائماً بها. وصحوت على دخولهما ورأيتهما، فأيقنت أنهما ضابطا مباحث، وأدركت أنهما يبحثان عن المتهمين الهاربين فى قضية اغتيال الشيخ الذهبى. رأيت ملابسهما- الملكية- مهلهلة وكأنهما ينامان بها، كما رأيت شعرهما مشعثاً مشوشاً، وعينيهما محمرة، من أثر الجهد والسهر الطويل. نظرا إلى ملياً، وبديت عليهما القناعة بأننى- بحكم سنى وهيئتى- لايمكن أن أكون إرهابياً- ولا من تنظيم الجهاد. ولم يكن من الحاضرين- وهم سيدتان وثلاثه أولاد وأطفال، ما يثير ريبتهما، فما لبثا أن انسحبا خارجين. فتنفسنا الصعداء، وأحسسنا بأننا أصبحنا فى أمان، بعد أن أطمأن رجال المباحث، إلى نظافة الشقة.
 مكثنا فى شقة المندرة ثلاثة أشهر- هى مدة المصيف المعتادة، ثم عدنا إلى القاهرة، وهناك كانت حماتى- شكر الله لها- قد أوجدت لى مكاناً للاختفاء فى شقة قريب لها- هو الأستاذ صادق أمين، المفتش بمصلحة السجون، بمصر الجديده، حيث أقمت معهم، هو وزوجتة الأستاذه هيام حافظ، وأبناءهما- شريف، وأميرة، ووفاء، لمدة ستة أشهر، كانوا خلال نعم الأهل، ونعم الأصدقاء.
 ثم انتقلت بعد ذلك إلى حلوان مرة أخرى، ولكن هذه المرة للإقامة مع الدكتور على مرتضى- الشيخ على- وزوجتة الفاضلة، الأستاذة هالة هجرس، فى منزل والد الزوجة المثال محمد هجرس، الذى ترك لهما هو وزوجتة الشقة، ليتزوجا فيها، وسافر هو وزوجتة إلى بغداد للعمل والإقامة. وكان يقيم مع الشيخ على وزوجتة هالة، أخواها- هانى، وهبه. وكان المنزل كبيراً وبه أتليه لصنع التماثيل، وأماكن لحفظها، كما كان به أتليه آخر لصناعة الخزف. قضيت فى هذا المكان الطريف بضعة أشهر فى ضيافة كريمة ومودة صادقة من الشيخ على وحرمة، وأخويها، وفى رعاية مستمرة من الأخ العزيز محمد على ماهر، والصديق الوفى- سعد مكاوى.
 ولكنى اضطررت لترك هذا المكان اللطيف، خلال ساعة واحدة، فى ظرف اضطرارى مفاجئ فقد حدث أن كنت جالساً فى بهو الجلوس بهذا المنزل مع صاحبيه- على وهالة- فى أمان الله، حين فوجئت بدخول رجل وسيدة، دخلا بدون استئذان، وكان الباب مفتوحاً. فوجئت بالداخلين، وشعرت بارتباك شديد، فقد كانا الداخلان هما، المهندس فوزى الحبشى- أو الرفيق عصام، وزوجتة ثريا. وكان فوزى أحد قادة التكتل، وكان على صلة تعارف سابقة مع المثال هجرس، ولم يكن يعرف أنه غادر البلاد، فحضر مصادفة للقائه بمناسبة زيارته حلوان. لم أكن أشك فى أمانة فوزى أو فى استقامته، ولكنى كنت أشك فى التكتل كله، واعتبره مخترقاً تماماً من الأمن، وكان الطبيعى أن يتسرب خبر وجودى فى هذا المكان إلى التكتل من خلال فوزى، ومن ثم إلى البوليس.
إرتبك فوزى هو الأخر، وسلم على، وجلس فترة قصيرة وهو يستشعر الحرج، ثم استأذن منصرفاً هو وزوجتة. ما أن انصرفا، حتى طلبت من الشيخ على أن يدبر لى أمر توصيلى إلى القاهرة دون إبطاء ففعل، وتصادف أن شقيقة الأكبر- علاء- يتأهب للنزول- بسيارته إلى القاهرة- فأخذنى معه، وتوجهت إلى منزل الأستاذ صادق أمين، فطبيت عليه فجأه، مكثت عنده بضعة أيام، استطعت خلالها أن أدبر مع سهير، أمر استئجار منزل حلوان الصغير، عن طريق الشيخ على، مرة أخرى، ثم ذهبت إليه خلال أيام قليلة.
 وأبلغنى الشيخ على فيما بعد، أنه التقى بالمهندس فوزى حبشى- عصام- بعد ذلك، وسأله عصام عنى، فأخبره بأننى تركت المنزل على أثر انصرافه هو وزوجتة فى ذلك اليوم، بساعة واحدة، وأنه- الشيخ على- لايعرف عنى شيئاً بعد ذلك، فأبدى عصام أسفه وألمه أن يكون هو السبب فى ما حدث لى. وملت إلى تصديق أسفه وألمه.
 فى فترة إقامتى بمصر الجديدة، وقع حادث مؤسف، علمت به وتابعته من الصحف والإذاعة والتليفزيون، هو اغتيال الأديب، يوسف السباعى فى قبرص، وكانت بينى وبينه صلة طيبة، ودرجة من درجات المودة، وضاعف من ألمى لهذا الحادث ما عرفته حينها، من أن الصديق عبد الرحمن الشرقاوى كان مصاحباً له فى ذلك الاجتماع الذى اغتيل فيه، وهو اجتماع لمنظمة التضامن الأفريقى الآسيوى.
بعدها بقليل، عرفت بنبأ استشهاد المناضلة الفلسطينيةالشابة، دلال المغربى. ورفاقها، فى عملية فدائية قاموا بها فى الأرض الفلسطينية قريباً من حيفا.. تألمت لوفتها، وكتبت فيها قصيدتى التى أسميتها:
إلى دلال، والتى جاء فيها:
 عندما ماتت دلال ..
ولدت فى الليلة الظلماء نجمة..
وتراءت فى سماء القدس بسمة..
وتناهى من فلسطين عبير البرتقال
...
عندما جاءت مع الموج فلسطين الجديدة..
ترتدى ثوب شهيدة..
أشرق الرمل..ولان الصخر وانساب الحنين..
فى عظام الأقدمين!
...
إن تكن ماتت فمامات الفداء..
لا..ولا ماتت موازين الفضيلة..
لم تمت إلا الحسابات الذليلة.
...
فإذا عاد إلى حيفا الربيع..
وهمى فوق الربا صوب المطر..
سوف تنمو فوق كثبان الرمال..
كل يوم وردة..تدعى دلال!
...
قرأت هذه القصيدة للعائلة التى كانت تستضيفنى، فتأثروا بها جداً، وكان الحادث حياً فى الأذهان والنفوس، وكان أكثر من تأثروا بالقصيدة، الفتاتان أميرة ووفاء، الشابتان، ابنتا هذه العائلة، خاصة وقد شرحتها لهما، وأدهشنى أنهما قد حفظتاها سريعاً عن ظهر قلب.
...
عدت بعد قليل إلى حلوان، إلى البيت الصغير الذى سبق ذكره. كما عدت إلى القراءة المكثفة فى السيرة العظرة للرسول عليه الصلاة والسلام، سيرة ابن هشام، حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل، على هامش السيرة- للدكتور طه حسين، عبقرية محمد- للعقاد، محمد- لتوفيق الحكيم، محمد رسول الحرية، لعبد الرحمن الشرقاوى، ومعظمها كتب أمدنى بها محمد على ماهر من مكتبته العامرة.
ومن خلال هذه القراءات، ومن خلال معايشتى الطويلة لتلك السيرة العطرة، وجدت نفسى تمتلئ بالحب والإجلال للرسول الكريم، ووجدت ينبوع الشعر يفيض فى نفسى بقصيدة لم أكن أكتبها، بل كانت تملى على من حيث أدرى ولا أدرى. تلك هى قصيدة "فى نجوى الرسول" ، وهى قصيدة ملحمية مطولة، جاش بها الوجدان من تلقاء نفسه.
  وجاء بها:
فى شذا نجواك تنهل المدامع..
وتذوب النفس من أشواقها..
ويظل الطرف يهمى وهو خاشع..
من وميض الشمس فى إشراقها..
...
خضرة الظلماء فردوس الهوى..
فجرى ياعين فيها كوثرا..
إن بكى العشاق من فرط الجوى..
فأنا دمعى من القلب جرى..
...
يقصر الشعر..ويرتج اللسان..
كلما حاولت أن أسمو لذاتك..
يارسول الله أعيانى البيان..
فأعرنى نفحة من نفحاتك..
...
  وجاء فيها:
يا يتماً لم يذق طعم الحنان..
وفقيراً قد جفاه المترفون..
فغدا للناس فى كل زمان..
الأب المعطاء..والأم الحنون!
...
دوحة تمتد بالظل الظليل..
 للحيارى..والأسارى..والعفاه..
والمساكين..وأبناء السبيل..
وضحايا العيش فى ظل الطغاة
...
كنت فى أرواحهم دفقة عطر
تبعث المكنون من أسرارها
كنت فى أفهامهم جذوة فكر..
تسبح الأكوان فى أنوارها..
.... إلخ.
 كانت قصيدة طويلة تزيد على الخمسين بيتاً، قرأتها على الأستاذ محمد على ماهر، الشاعر الكاتب، بعد كتابتها بأيام قليله، عندما جاء لزيارتى فى إحدى الأمسيات كعادته. تأثر بها تأثراً بالغاً، ثم أطرق إطراقة طويلة، وقال:
  -هذه قصيدة رائعة، وصادقة. وسوف يكون لها شأن فى حياتك، إنها تحية خالصة منك للرسول الكريم، وسوف يرد الله ورسوله على تحيتك هذه بأحسن منها. وسوف ترى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق