ذكريات شاعر مناضل: 39- فى محكمة الجنايات- مرة أخرى

39- فى محكمة الجنايات- مرة أخرى


  كان لقاؤنا- أنا وعبد الرحمن الشرقاوى- بالرئيس أنور السادات باستراحة القناطر يوم 10 أبريل 1979، وفى طريق عةدتنا، أوصلنى عبد الرحمن إلى منزلى، فعدت إليه بعد غيابى عنه لمدة عامين وشهرين وعشرين يوماً، بالتمام والكمال.
 عدت إلى منزلى، وإلى زوجتى وأولادى، بعد هذا الغياب الطويل، وبعد أن أقمت فى بيوت أخرى، وأماكن أخرى، طيلة هذه المدة. كان كل شئ يبدو غريباً عنى، البيت، والأثاث، ثم بدأت عيناى تتعودان على المكان من جديد، وكأننى مريض يشفى من مرضه.
 بعدها بأيام، ذهبت لمقابلة الأستاذ الجليل فتحى رضوان المحامى، فى مكتبه بشارع قصر النيل، بناء على موعد سابق، حدده لى الزميل سعد كامل، ابن شقسقتةن وزميلة السابق فى اللجنة القايدية للحزب الوطنى الجديد، وكان فتحى من أشهر المحامين الجنائيين، كما كان أديباً، ووزيراً سابقاً منذ أوائل عهد الثورة، وكنت قد التقيت به مراراً من قبل، وتقوم بيننا علاقة مودة متبادلة.
 استقبلنى الرجل العظيم بحفاوة، واستمع باهتمام بالغ إلى حديثى عن مقابلتى للسادات. فأقرنى- كقانونى وكسياسى- على مسلكى مع السادات خلال هذه المقابلة، واعتبر أن لقائى به كان أمراً ضرورياً ونافعاً.
 ثم أخبرته بأننى، رغم ما أمر به السادات وزير الداخيلية، بعدم التعرض لى، فإننى سوف أتوجه إلى المحكمة، لأقدم نفسى إليها بعد تغيبى عن الحضور أمامها منذ بدات تنظر القضية منذ وقت طويل، فأقرنى على هذا الأمر أيضاً حتى لا يظل أمرى رهيناً بإرادة السادات أو وزير داخليتة، ورحب الرجل مشكوراً بأن يحضر معى إلى المحكمة ويقدمنى لها، وسألنى عما إذا كنت أوافق على أن يقوم هو بإخبار هيئة المحكمة بأمر مقابلتى للسادات وما انتهت إلية، فوافقت على ذلك طبعاً وشكرته عليه، ثم اتفقنا على أن يتم ذلك يوم أول مايو، وعلى أن نلتقى، أنا وهو فى بهو المحكمة فى الساعه العاشرة من صباح ذلك اليوم، على أن ندخل إلى الجلسة معاً.
فى تمام الموعد المذكور، حضر الرجل الجليل وهو يرتدى روب المحاماة، والتقيت به، ودخلنا إلى القاعة، وكانت الجلسة قد بدأت قبلها بقليل.
 تقدم الرجل العظيم يشق طريقة إلى منصة المحكمة، وأنا معه، إلى أن وقفنا أمام هيئة المحكمة، الجالسة على المنصة، والتى كان يرأسها المستشار العظيم حكيم منير صليب، الذى لم أكن قد رأيته من قبل.
 عندما رأت هيئة المحكمة الرجل- فتحى رضوان- عرفه رئيسها طبعاً وتكلم هو طالباً إثبات حضوره معى قائلاً.
 -أنا فتحى رضوان المحامى، وأرجو إثبات حضورى مع زميلى الاستاذ محمود توفيق المحامى (وأشار إلى) المتهم فى القضية، والذى يحضر الجلسة لأول مرة. وأمر رئيس المحكمة بإثبات حضورى، وراجع قرار الاتهام فى ملف الدعوى، وأشر قرين اسمى- بحضورى ثم سالنى:
 -انت كنت فين يا محمود؟
 فأجبته: كنت هربان.
 واعترض فتحى رضوان على هذه الإجابة قائلاً:
- لا ياسيادة الرئيس، هو يقصد انه كان قاعد فى بيته معتكف فقط.
وفوجئ رئيس المحكمة بقولى مرة ثانيه:
-لا ياسيادة الرئيس، أنا كنت هربان فعلاً.
وسرت ههمه فى القاعة، وابتسم فتحى رضوان وقد شعر بالحرج من هذا الموقف، وله عذره فى ذلك، غير أننى أنا أيضاً كان لى عذرى.
 كان هو كمحام، حريصاً على ألا يؤدى قولى هذا- بأننى كنت هارباً للإساءة إل موقفى فى القضية، وأن يدفع المحكمة إلى الأمر بالقاء القبض على حتى لا أهرب مرة أخرى. أما انا فكنت اعتبر الهروب موقفاً سياسياً أريد إعلانه وعدم التنكر له، كما اننى كنت أريد انتعرف المحكمة، والجمهور الحاضر، أننى رجل صادق شجاع ولا أكذب أو أختلق. وقد لمست أثر ذلك فى سلوك المحكمة نحوى، واحترامها لى طوال جلسات المحاكمة بعد ذلك.
 تبسم لأستاذ فتحى، وتجاوز عن هذا الموقف المحرج، ثم استأذن المحكمة فى الكلام فاذنت له، فقال:
 - أود أن أذكر لعدالة المحكمة، أن الأستاذ محمود قابل رئيس الجمهورية، بناء على طلب الرئيس، ودار بينهما حديث عن القضية، انتهى الرئيس بعده إلى إصدار أمره لوزير الداخلية ورجاله، بعدم التعرض للأستاذ محمود. ورغم هذا فهو يحضر ليقدم نفسه إليكم بنفسه، بمحض حريته ورضاه. لذلك فأنا أطلب من عدالتكم، إصدار أمر منكم بالإفراج عنه من قاعة الجلسة.
 نظر المستشار العظيم- حكيم منير صليب- إلى سائلاً
 - صحيح يامحمود الكلام ده؟
 فأجبته على الفور:
 -صحيح تماماً يا سيادة الرئيس.
 ووجه رئيس المحكمة إلى ممثل النيابة الحاضر بالجلسة السؤال:
 -هل لدى النيابة علم بذلك؟
فأجابه رئيس النيابه الحاضر بالجلسة بقوله:
 -النيابة لا علم لها بهذه المقابلة، وهى لا تثبتها، ولا تنفيها. وبدا على المحكمة الاقتناع بصدقى، وبأن ما قاله العظيم فتحى رضوان، وما قلته أنا، صحيح تماماً، وكا ذلك ثمرة من ثمرات موقفى الصادق والشجاع أمامها. ولذلك فقد أصدرت المحكمة أمرها- فى نهاية الجلسة- بالإفراج عنى احتياطياً من قاعة الجلسةن بموجب قرار كان قد صدر بالإفراج عنى بكفالة- دفعتها- فى قضية سنة 1975، التى كانت قد ضمت إلى ملف الدعوى القائمة.
 خرج الأستاذ فتحى رضوان من قاعة الجلسة، تحيط به هالة من العظمة والوقار، بينما توجهت أنا إلى مكان قريب فى مقدمة القاعة، على مرأى من هيئة المحكمة، من الأماكن المخصصة لجلوس المحامين، فجلست به.
 تصادف أن كانت هذه الجلسة مخصصة لسماع أقوال شهود الإثبات، وتصادف أن كان الشاهد الذى سيدلى بأقواله فى هذه الجلسة، هو المدعو محمد طنطاوى، من رجال هيئة الأمن القومىن والذى كان هو الشاهد الوحيد ضدى لدى النيابة، كما كان شاهداً ضد الزميل أحمد عبد القادر شهيب أيضاً.
 وقف الشاهد وبدأ يدلى بأقواله أمام المحكمة، ولم يكن هناك منالمحامين من يحضر عنى لمناقشة الشاهد، ورغم وقوف نيبل الهلالى أما المنصة، إلا أنه لميكن مستعداً لمناقشة الشاهد، فلم يكن مكلفاً منى، ولا متطوعاً للحضور عنى.
 تقدمت إلى المحكمة، وطلبت الإذن لى بمناقشة الشاهد، فسمحت لى المحكمة بذلك، وكنت قد كسبت تقديرها وثقتها فى صدقى.
 استمر الشاهد فى الإدلاء بأقواله التى يغلب عليها المبالغة والتهويل والاختلاق، إظهاراً لذكائه وبراعته وتعظيماً لدوره فى الاتهام. وكان من عادتى- كمام- ان أفرح بهذا النوع من الشهود، وأعتبرهم فى الواقع، شهوداً لصالح الدفاع.
 وتصديت لتنفيذ أقوال الشاهدن وذلك بتوجيه الاسئلة الحاسمة إلية فجعل يتخبط ويتناقض فى أقواله، ثم أخذت هيئة المحكمة، ورئيسها بالذات، يجهزون عليه بأسئلتهم، حتى تعرت أكاذيبه وافتراءته تماماً، وبدأ يفقد أعصابه. كان واضحاً، أن المحكمة، بفضل تصديقها وثقتها فى، قد فقدت الثقه فى أقوال هذا الشاهد تماماً.
وبالفعل، فحين أصدرت حكمها بعد ذلك بشهور فى القضية، وقضيت ببراءتى، وبراءة أحمد وبراءة معظم المتهمين، فقد استندت فى أسباب حكمها التاريخى الذى أدانت فيه النظام وساطاته، إلى عدة أسباب قانونية حاسمة، كان منها إهدار أقوال هذا الشاهد- طنطاوى- تماماً، واستبعادها، لما تبين لها- كما جاء فى حيثياتها- من كذبه وبعده عن الصدق فى أقواله.
...
انتهت الجلسة، وخرجت من قاعتها، إذ كانت المحكمة قد أعلنت قرارها بالإفراج عنى من قاعة الجلسة، ولكننى ما إن خرجت من باب القاعة إلى البهو، حتى لحق بى عدد من ضباط المباحث ورجالهم، فايتوقفونى، وأخبرونى بأنهم يريدون أخذى إلى مقر المباحث- لاستكمال بعد الإجراءات.
 فى هذه اللحظة، رأيت الزميل ناشد زكى مراد، ومعه الزميل أبو زيد نبيل الهلالى، يهرولان نحوى من داخل القاهة، وناشد يقول:
 - محمود..
سمعه أحد الضباط الذين كانوا محيطين بى، واسمه مصطفى موسى، فبادر إلى انتهاره قائلاً:
- عايز إيه منه يا زكى .. سيبه فى حاله يا أخى...
فبادر زكى بقوله له:
- وانت مالك انت.
فرد عليه الضابط بقوله بشكل تقريعى:
- ياشيخ سيبوه فى حاله. ثم أضاف بلهجة ذات معنى:
- مش كفايه اللى عملتوه فيه؟
وهنا تراجع زكى ونبيل، بينما اقتادنى الضباط ورجالهم إلى خارج المحكمة، فى الطريق إلى مقر المباحث بوزارة الداخلية. حدث يومها فى المحكمة أمران آخران:
- فقد حدثتنى سهير -زوجتى- أنها كانت تجلس على دكة من الدكك المخصصة للجمهور، بجوار باب القاعة أثناء دخولى أنا والأستاذ فتحى رضوان، وكانت تعلم أننى سأدخل الجلسة أنا وهو، وبينما أنا داخل، سمعت صوتاً يقول وهو يشير نحوى، بصوت مسموع:
- الخائن !
وتقول سهير، إنها التفتت خلفها بسرعة نحو مصدر الصوت، فوجدت المدعو شيخ العرب، محمد على عامر، هو الذى تفوه بهذه الكلمة، وقد رآها وعرفها، فخفض رأسه ووجهه إلى الأرض، ولاذ بالصمت مرتبكاً وقد أدرك أنها سمعته وعرفته. وكانت تعرفه، وطالما رأته يحضر إلى بيت أبيها، ليتلقى منه -عن طريقها، مساعدات مالية لشخصه. ولذلك فقد تخاذل عند رؤيتها متفادياً أن ينظر نحوها ببصره.
- وحدثنى الفنان زهدى العدوى -حين لقيته بعد ذلك، وكان من جماعتنا ومتهماً فى القضية، أنه كان يجلس فى جانب آخر من القاعة، وكانت تجلس على مقربه منه إحدى عناصر التكتل والتجمع، وهى المدعوة -فريدة النقاش- فلما رأتنى داخلاً إلى قاعة المحكمة، (بعد عامين وربع من الهروب) جعلت تهاجمنى وتوجه ضدى السباب والشتائم والاتهامات، على ملأ من الجالسين حولها، مما دفع الفنان العظيم زهدى، إلى التصدى لها مدافعاً عنى ورافضاً اتهاماتها لى، مما أخرسها وأزمها الصمت.
وكانت هذه السيدة، وزوجها لمدعو حسين عبد الرازق، ممن تخصصوا فى مهاجمتى أنا ومن معى، سواء فى المجالس، أو حتى بالكتابة فى جريدة التجمع المسماه بالأهالى. واستمرا فى ذلك لسنوات وسنوات، وربما حتى الآن، كما استمرا فى التهجم على الرجل العظيم -عبد الرحمن الشرقاوى- وهو صديقى ومن المناصرين لى. وكانا قد قبضا ثمن هذا التهجم والإساءة، من التكتل، بتصعيدهما إلى عضوية المكتب السياسى للحزب، بلا سبب وبلا استحقاق، كما كانا قد تقاضيا الثمن من التجمع -عن طريق رفعت السعيد، بوضعهما فى مواقع هامة فى صدارة هذا الحزب، وفى صحيفته.
وبالنسبة لناشد -زكى مراد، فربما كانت هرولته نحوى- ومعه نبيل الهلالى، أقول ربما- كانت تحمل بإدارة اعتذار عن مواقفهما منى، بما فيها وقف المعونة عنى وأنا هارب، ثم إصدار قرار بفصلى أنا وزملائى من الحزب دون سبب حقيقى، ودون إجراء تنظيمى صحيح، ربما كان ذلك، ولكن الوقت كان قد فات منذ سنوات على أى فرصة لتصحيح الأخطاء أو إزالة آثارها.
ومن المؤكد أن العبارات التى وجها الضابط مصطفى موسى، إلى زكى- فى حضورى، كانت تقصد إلى القول بأن المباحث كانت على علم بكل ما حدث، وأنها تعلن علمها هذا على وعلى زكى ومن معه فى نفس الوقت. وهو ما فهمه كل من زكى ونبيل، فلم ينبسا بعده ببنت شفه، إذ كانا يعلمان بأن تكتلهما مخترق أمنياً على كافة مستوياته، وأن ما ذهب إليه الضابط صحيح.
وأما شيخ العرب، أو محمد على عامر، فلم يكن فى تهجمه على أى غرابة، فقد كان هذا الشخص معروفاً لدى كل الناس، داخل الحزب وخارجه، بشدة جهله وحماقته وغبائه. ومن آيات ذلك، أنه كان لا يكف عن الهجوم على المثقفين، باعتبارهم دخلاء على حزب الطبقة العاملة، أى على حزبه هو وأمثاله، وكان يكن لهؤلاء المثقفين، وأنا فى مقدمتهم، كما هائلاً من الكراهية الناشئة عما يملاْ قلبه من الغرية والحسد.
وقد كان شيخ العرب هذا يقر بأنه دخل الحركة الشيوعية من باب خلفى، وهو أنه كان عضواً فى عصابة مهمتها ضرب وإفشال إضرابات ومظاهرات العمال، بمنطقة الزيتون الصناعية، لصالح رجال الأعمال وأصحاب المصانع، ثم تحول موقفه بعد ذلك، ليلتحق بالحركة النقابية العمالية، ومنها إلى بعض التنظيمات الشيوعية.
...
كل هذه المواقف -وغيرها من الإساءات التى كانت توجهها عناصر التكتل إلى وإلى زملائى وأصدقائى وأنصارى، لم تنل من عزيمتى أو اعتزازى بمواقفى وآرائى، بل أننى كنت ومازلت أعتبرها تعبيراً عن مركبات النقص والغيره والحسد، تجاهى، وتجاه زملائى، وعن إحساسهم هم بالفشل والصغار الذى يغوصون فيه يوماً بعد يوم.
وكنت ومازلت اعتبر هؤلاء -مجرد أطفال لا يقدؤون إلا على العبث والصغار، وأتذكر دائماً قول الشاعر العظيم أوب القاسم الشابى عن أمثالهم:

وترنموا ما شئتموا بشتائمى..
وتجاهروا ما شئتموا بعدائى
أما أنا فأجيبكم من فوقكم..
والشمس والشفق الجميل ورائى..
من جاش بالوحى المقدس قلبه
لم يحتفل بفداحة الأعباء
فارموا إلى النار الحشائش والعبوا
يا معشر الأطفال تحت سمائى!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق