ذكريات شاعر مناضل: 45- المحاماة مرة ثالثة

45- المحاماة مرة ثالثة


  أحسست بالحنين إلى مهنة المحامة، وبالحاجه إليها مرة أخرى. وكانت المره الأولى التى لجأت فيها إلى هذه المهنه عقب تخرجى من كلية الحقوق، وضيقى بالوظيفة الإدارية الصغيرة التى كنت قد شغلتها، وكان ذلك عام 1952، عقب قبام ثورة يوليو مباشرة، وظللت أمارسها حتى اضطرتنى ظروف الهروب من الاعتقال والختفاء، عقب أحداث مارس سنة 1954، ثم ظروف سجنى الطويل حتى نهاية سنة 1959. ثم عدت إلى هذه المهنة، التى كانت الأم الرءوم لى ولكثيرين غيرى من المناضلين، من أول سنة 1960 حتى سنة 1963 حين عينت مستشاراً قانونياً فى القطاع العام السينمائى.
 أما الآن، بعد أن دارت الحياة بى دورة طويلة متعرجة، فها أنذا أشعر بالحنين إلى تلك المهنه، وكان الذى أيقظ فى نفسى هذا الحنين، هو عملى مستشاراً قانونياً لمنظمة التضامن الأفريقى الآسيوى، من عام 1981، فقد أعادنى هذا العمل إلى جو العمل القانونى، كما كان من وجباتى ممارسة العديد من القضايا التى كانت ترفع من المنظمة أو عليها. وهو ما أعادنى تدريجياً إلى جو المحاماه. ودفعنى للتفكير فى العودة إلى تلك المهنه، الاحتياج المادى، إذ ان مواردى- من المعاش ومرتب المنظمة، لم تكن كافية لمواجهة احتياجاتى، واحتياجات أسرتى المتصاعد. وفضلاً عن ذلك، فلم يكن هناك حائل قانونى أو إدارى يحول بينى وبين الاشتغال بالمحاماه.
 والمحاماه، لمن يعرفها، مهنه ذان جاذبية أسرة، فهى تتيح للمحامى الفرصة للاختلاط بالناس على اختلاف أنواعهم وأوضاعهم الاجتماعية، ومعايشة مشكلاتهم واهتمامتهم، وهى تدفع صاحبها إلى مداومة الإطلاع لا على القوانين وعلومها فحسب، بل وفى شتى وجوه المعرفة ودروبها، تبعاً لنوعية القضايا التى يتولاها، وهى تحملة على البحثوالأستكشاف والابتكار، سعياً إلى إيجاد الحلول للمعضلات التى يواجهها، ومن هنا يكتسب المحامى خبرات شديده الاتساع والتنوع.
 والمحاماه مهنه تجمع بين العلم والفن، العلم القانونى وغير القانونى، والفن الأدبى والمسرحى. فالمحاماه تحيل المحامى حين يكتب مذكراته وأوراقة الأخرى، إلى أديب بليغ، ثم تحيله حين يقف فى المحكمه مترافعاً، إلى ممثل مسرحى قدير. وما أشبه المحامى وهو يقف وراء منصه المرافعه فى قاعة الجلسة، إلى الممثل وهو يعتلى خشبة المسرح. وكم شاهدنا جمهور الحاضرين فى قاعه الجلسة، وهم يصفقون استحساناً وإعجاباً بمرافعات المحامين، وكأنهم جمهور مسرح يصفق للممثل الفنان إعجاباً بأدائه لدورة.
 كنت أشتاق إلى ذلك، وأتطلع إلى أن أجد الفرصة للعودة إلى تلك المهنة، ولو فى الوقت الضائع، وأخيراً وجدتها.
 فذات صباح قرأت إعلاناً فى جريدة الأهرام عن شقق معروضة للبيع بتسهيلات فى الدفع، فى شارع ضريح سعد زغلول بالجهة الشرقية من حى جاردن سيتى، أو الشمالية من حى المنيرة، وهو الحى الشهير بحى الوزارات، وكنت أنا وسهير ذاهبين إلى مكان قريب من تلك الناحية، فقررنا الذهاب إلى تلك العمارة المعلن عنها، ولم يكن لدى أمل كبير فى الحصول على شقة هناك. ولكن الله أراد أن ييسر لى تحقيق رغبتى. فحين قابلت صاحب العمارة، وعرف أننى أريد الشقة لأتخذ منها مكتباً للمحاماه، أبدى فرحه وترحيبه بى، وقال أنه فى مسيس الحاجة إلى محام يرعى شئونه القانونية والقضائية، وسارع الرجل فعرض على من التسهيلات ما لم أكن أنتظره أو أتوقعه، وهكذا تم الاتفاق وحررنا عقد إيجار الشقة فى نفس اليوم.
  كانت شقة صغيرة، حجرتين وصالة والمنافع، فكانت مساحتها مناسبة تماماً لحاجتى، ولكن موقعها كان أكثر من ممتاز، إذ كانت تطل على قصر وحديقة بيت الأمة، وما أدراك ما بيت الأمة! إنه بيت الزعيم الخالد سعد زغلول. بيت الذكريات الوطنية الغالية، البيت الذى عاش ومات فيه ومات زعيم مصر وابنها البار سعد زغلول.
 ووقعت فى حب ذلك المكان من النظرة الأولى، فحصلت على تلك الشقة بأيسر مما كنت أتخيل من الشروط. واستطعت بتسهيلات ربانيه تجهيزها وتاثيثها فى أسرع وقت، واتخذت مكان مكتبى فى تلك الغرفة المطلة على بيت سعد زغلول وحديقتة الغناء، فقلت فى نفسى:
 يكفينى هذا. يكفينى أن أرى البقعة التاريخية الحبيبة كلما جلست على هذا المكتب، وكلما أطللت من هذه الشرفة.
 سعد زغلول الذى كتب عنه والدى الكثير من الأشعار، ومنها قوله:
  على دين سعد فى محبة أوطانى
أموت، ويحيا سعد للوطن العانى

  والذى قلت أنا عنه فى قصيدتى، أعياد:
 وانبرى سعد الزعيم
يتصدى للطغاة
ومضى الشعب العظيم
وهو يسعى للحياة
وملايين الرجال..
وملايين النساء
وصدى صيحاتهم..
وهى تدعو للجلاء..

 ولكن سرورى لم يقف عند حد السعادة بالمكان، وما يثيره فى نفسى من كوامن الذكريات والمشاعر، إذ ما أن فتحت المكتب، حتى فتح الله على، إذ فى خلال شهور قليله أصبح المكتب عامراً بالقضايا المختلفة، قضايا جنائية من مختلف الأنواع. والتحق بالمكتب عديد من المحامين الشبان، والمساعدين، وأخذت عجله العمل تسير من أحسن إلى أحسن.
  واكتشفت فى نفسى، أننى أصبحت، فى هذا السن المتقدم، محامياً ضليعاً بالفعل، وكانت من أهم القضايا التى توليتها، وأبليت فيها بلاء حسناً، قضية تمثال يوسف صديق، تلك القضية التى كانت قد أقمتها أمام مجلس الدولة، القضاء الإدارى، والإدارية العليا، بأسم عائلة المرحوم يوسف صديق، على وزارتى الدفاع والثقافة ورئيس الجمهورية. طالباً فيها الحكم بإلزامهم بإقامة تمثال لهذا البطل، ضمن التماثيل التى كانت قد أقيمت فى القاعة الخاصة بثورة يوليو بالمتحف الحربى، لأعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو، وكانت الجهات القائمة على إقامة المتحف قد أغفلت إقامة تمثال ليوسف صديق، وعبدالمنعم أمين ضمن تلك التماثيل.
 ونالت القضية اهتماماً كبيراً من الرأى العام، ومن الصحافة، واستغرق نظرها عشر سنوات، كانت فرصة لحشد رأى عام واسع لإحياء ذكرى يوسف صديق، كما أن القضية نالت عطفاً كبيراً من قضاة ومستشارى مجلس الدولة، فأصدر المجلس حكماً تاريخياً رائعاً بإلزام المدعى عليهم بإقامة ذلك التمثال.
 ويقف هذا التمثال الآن شامخا فى المتحف الحربى، بعد طول جحود وإنكار لتاريخ يوسف ودوره الحيوى فى ثورة يوليو.
 وأستمر المكتب عاملاً لمدة عشرين عاماً. إلى أن قررت الخلود إلى الراحة بعد العناء الطويل.
 كنت فى قتره العمل بالمحاماة قد اضطلعت ببعض المشغوليات الأخرى الإضافية.
 منها قيامى بالإشراف على الملحق الأدبى والفنى لمجلة اليقظة العربية، التى كن يصدرها ويرأس تحريرها الصديق الراحل الدكتور محمد أحمد خلف الله، والتى استمرت فى الصدور عدة سنوات، إلى أن توقفت عن الصدور فى أواخر سنة 1990.
 ومنها قيامى بإصدار رسالة سياسة عنوانها: من أجل تأسيس حزب مصرى جديد، ضمنتها أهم أفكارى عن هذا الحزب، وعن المرتكزات والمبادئ التى ينبغى أن يقوم عليها، وذلك من واقع خبرتى فى العمل والنضال السياسى، وعلى ضوء تجربة عملى تحت راية اليسار الوطنى. وقد قمت بطبع عدد من النسخ من هذه الرسالة، وبتوزيعها على عدد من الشخصيات المعنية بهذا الموضوع، إبراء لذمتى، وتسجيلاً لما تجمع لدى من الأفكار والخبرات. وكان ذلك فى أواخر التسعينات. وقد أردت بذلك أن أضع خلاصة تلك التجربة، تحت تصرف من يريد، وقلت: لعل وعسى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق