ذكريات شاعر مناضل: 42- تحت راية اليسار الوطنى

42- تحت راية اليسار الوطنى

  كان عبد الرحمن الشرقاوى هو أول من استعمل تعبير "اليسار الوطنى" فى كتاباته السياسية. استعمله فى العديد من مقالاته بجريدة الأهرام، ومجلة روز اليوسف، استعمله للتميز بين هذا اليسار، وبين اليسار الطفولى المغامر، بما هو معروف عنه من الاندفاع والتطرف - أو التظاهر بالتطرف رغبة فى اكتساب الشهرة والرواج، لدى العناصر قليلة الوعى والتجربة والخبرة، ومن الميل المستمر إلى التصادم مع الآخرين، وخاصة الاختلاف فى الرأى.
 وكنت قد توصلت، من خلال توافرى على دراسة تاريخ الحركة الشيوعية المصرية منذ العشرينات والأربعينات والخمسينات، التى نتيجة رئيستة، مؤداها أن  فشل وانهيار الحركة الشيوعية، واليسار المصرى عموماً إنما يعود جوهرياً إلى الإضرار إلى ألتحقها هذا اليسار المغامر، بالحركة الشيويعة، وبحركة اليسار المصرى عموما. وكان ماثلاً أمامى دائماً، أن الموقف الطفولى المغامر لبعض التنظيمات الشيوعية فى أول الثورة، توجيهها للاتهامات الجزافية إلى حركة 23 يوليو، بالفاشية وبالعمالة للاستعمار الأمريكى، كان هو السبب الأساسى فى ذلك التصادم الخطير الذى وقع بين حركة الجيش، وبين الحركة الشيوعية المصرية، والذى دفعت تلك الحركة، بل والحركة الوطنية المصرية كلها، ثمنه الباهظ.
 وكنت أخشى أن  شيئاً من هذا القبيل يوشك أن يحدث مرة أخرى. فعلى الرغم من أن الرئيس حسنى مبارك، قد بدأ سنوات حكمة بعد الحكم الذى كان قد جنح إلى المواقف اليمينية فى سنواته الأخيرة، بالميل إلى الأناة والاعتدال، إلى انتهاج سياسة المصالحة مع سائر القوى الوطنية فى الداخل، والقوى القومية العربية، والقوى الاشتراكية فى الخارج، فقد لاحظت، أن عناصر من اليسار المغامر- وخاصة فى حزب التجمع، قد انتهجت من الحكم الجديد سياسة عدائية واضحة، وغير مبررة منذ البداية. وكان الرئيس حسنى مبارك قد بادر منذ بداية عهده، فأفرج عن سائ المعتقلين فى حملة سبتمبر سنه 1981 التى شنها السادات على حوالى ألف من الشخصيات الوطينة، من كل الاتجاهات، بما فيها شخصيات شيوعية ويسارية وديموقراطية معروفه. كما بدأ فى انتهاج سياسات أخرى، بناءة ومبشرة، على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية. مما كان يبشر بانفراجة حقيقية للوضع السياسى والاجتماعى فى البلاد.
 ثم أعلن عن ترشيح الرئيس مبارك لمنصب رئيس الجمهورية، فى الاستفتاء الذى كان مقرراً إجراؤه، وأعلنت مختلف القوى الوطنية والديموقراطية عن اتجاهها إلى تأييد حسنى مبارك فى الاستفتاء، ولكن حزب التجمع، الذى كان واقعاً تحت سيطرة اليسار المغامر، شذ هذا الموقف الإجماعى للقوى الوطنية والديموقراطية، وعن الأطياف الأخرى لليسار المصرى، فأعلن أنه سوف يصوت بلا لاختيار حسنى مبارك، واشترط للتصويت له بنعم عده شروط، مؤداها تغيير كل الأوضاع والسياسات القائمة حينذاك.
 وشعرت بأن موقف اليسار المغامر- المتمثل فى التجمع هذا إنما هو الواقع شروط تعجيزية توضع أمام المرشح الجديد- الذى لم يتسلم السلطة بعد، وأنها تعنى فى الواقع العملى التصويت له بلا، ومن ثم الوقوف فى وجه التغييرات الإيجابية التى كان قد اتجه إليها قبل ذلك، والمغامرة بتحويل سياياته المستقبلية إلى الطريق العكسى.
 وخشيت أن يؤدى هذا الموقف إلى محن جديدة لقوى اليسار، كما حدث فى أوائل العهد لثورة يوليو.
 ورأيت أنه على اليسار الناضج، والعاقل أن يتقدم فيدين هذا الاتجاه الطفولى المغامر، وأن يعلن عن تمايزه عنه، فى محاولة لدرء الشر المستطير الذى يتهدد اليسار عموماً وأنه قد آن الأوان للنزول إلى الرأى العام، وإلى الشارع لإعلان هذا التمايز، وذلك تحت راية اليسار الوطنى، تبرئاًَ من مواقف اليسار الطفولى المغامر الذى يلبس مسوح التطرف.
  وهكذا- بادرت بإصدار بيان- فى صورة مقال طويل- نشر فى جريدة الأهرام- بمعونة الشرقاوى، بعنوان: أين يقف اليسار الوطنى من الاحداث الجارية فى مصر. وكان الهدف من البيان- المقال- كما يتضح من عنوانه: النزول رأيى ورأى مجموعتى، ورأى الكثير من أطياف اليسار، إلى الرأى العام، وتحت عنوان اليسار الوطنى، لإعلان التمايز عن اتجاه اليسار المغامر المتمثل فى موقف التجمع ، وثانياً إعلان اختلافنا عن الموقف الخاطئ سياسياً الذى اتخذه حزب التجمع من الرئيس الجديد وتبرؤنا منه.
 وقد أحدث هذا المقال- البيان- أثراً واسع النطاق، لدى مختلف القوى الوطنية والديموقراطية والتقدمية فى البلاد، كما أثار غضباً عارماً لدى اليسار الغامر فى حزب التجمع، كما عبر عن ذلك المتحدثون باسمه، والكاتبون بلسانه.
 كان نشر المقال يوم 1981/12/2 فى جريدة الأهرام. وبعدها بيومين بالضبط، نشر الأستاذ موسى صبرى مقالاً افتتاحياً طويلاً فى جريدة الأخبار تعليقاً على مقالى، بدأه بهذه العبارة:
  -قرأت أول أمس مقالاً رائعاً بجريدة الأهرام، للأستاذ محمود توفيقالمحامى، بعنوان: أين يقف اليسار الوطنى من الأحداث الجارية فى مصر.
 ثم راح موسى صبرى يوجه المدح والثناء على هذا المقال، وكان مما كتبه عنه:
  - ورغم أننى لست شيوعياً ولا ماركسياً، إلا أننى أعلن عن موافقتى التامه على كل كلمة جاءت فى هذا المقال.
 وكان هذا فى رأيى أفضل الثناء، لأنه صادر من شخص يفترض أنه مخالف لى فى الرأى.
 ثم توالت ردود الأفعال الإيجابية على المقال- البيان. وكان من أهمها مقال للسفير عثمان عسل بجريدة الأخبار، نشر يوم 1981/12/13 جاء فيه:
 -رحب الأستاذ موسى صبرى بمقال الأستاذ محمود توفيق المحامى الذى نشرته جريدة الأهرام بتاريخ 1981/12/2، وكان لترحيبه صدى خاص فى نفسى فأردت أن أضم صوتى إليه فى الترحيب به.
 ثم مضى السفير عثمان عسل، معلقاً على المحتوى الفكرى والسياسى للمقال، فأفاض من واسع علمه، فى شرح العلاقة بين الوطنية وبين الفكر الشيوعى الجديد، الذى بدأ يسود فى الأحزاب الشيوعيةالأوروبية، وضرب أمثلة عديدة على ذلك فى العديد من ذلك البلاد على ما لمسة بنفسه، وخص بالذكر تجربة تيتو، وشاوشيسكو، وبرلبنجوير، أو ما يسمى بالطريق الإيطالى.. ألخ.
 وأراد السفير عسل بالأمثلة التى ضربها التدليل على أن ما عبرت عنه من آراء فى مقالى، هو أمر طبيعى، يتمشى مع التطور الفكرى الجديد فى الأحزاب الشيوعية الأوروبية.

 ...
وتحت راية اليسار الوطنى أيضاً نشر عدد من الزملاء مقالات أخرىن فقد نشر سعد كامل، والزميل محمد شطا، عدة مقالات فى جريدة الأخبار، عرضت للعديد من مواقف هذا اليسار واتجاهاته فى مختلف نواحى العمل الوطنى.
 كما قمت أيضاً بنشر خمسة مقالات نزلت تباعاً- ويومياً- فى جريدة الأخبار فى الأيام من 14 إلى 18 مارس 1982 بعنوان: القضايا الأساسية للعمل الوطنى، تناولت تحديد أهداف العمل الوطنى من وجهة نظرنا- اليسار الوطنى- فى خمسة قضايا أساسية هى:
 -قضية التحرر الوطنى فى وضعها الراهن.
 -قضية الديموقراطية فى مصر.
 -قضية التنيمة.
 -قضية العدالة الأجتماعية.
 قضية الاشتراكية.
 ثم قمنا وقتها بتجميع هذه المقالات الخمس ونشرها معاً فى كتيب قمنا بطباعتة وتوزيعه على نطاق واسع، على أفراد جماعتنا من الأعضاء والعاطفين، وكان الهدف من ذلك، هو تحديد ونشر أفكار ومبادئ اليسار الوطنى، وتحديد برنامج الحد الأدنى لحركتنا.
 وقد لقيت هذا المقالات ، كما نشرت أولاً فى جريدة الأخبار، ثم كما نزلت فى الكتيب سالف البيان، اهتماماً ملحوظلً فى أوساط الرأى العام، وكان من أبرز ما نشر عنها فى الصحافة، مقال للأستاذ لمعى المطيعى فى جريدة الأخبار يوم 1982/4/7 بعنوان: هذا اليسار الجديد.. وماذا يريد- وجاء فى مقدمتها قوله تعقيباً على عبارة "اليسار الوطنى".
 - ومحمود توفيق يسارى وطنى، بكل أبعاد اليسارية وأبعاد الوطنية.. ثم عدد المقال نقاطاً كثيرة لاتفاقة مع ما جاء بالمقالات، كمل عدد بعض نقاط الخلاف أو الأختلاف، ولكن ذلك كله تم بأسلوب موضوعى رصين.

 ...
استمر الصراع الفكرى والسياسى بيننا- اليسار الوطنى- وبين اليسار المغامر ممثلاً فى قيادات التجمع طويلاً، وانعكس هذا الصراع على الموقف من الرئيس الجديد- حسنى مبارك. فبينما كنا نحن نتفاءل به ونؤيده ونشجع خطواته ومواقفه الإيجابية، كان اليسار المغامر يناوئه بلا سند ولا مبرر ولا منطق مفهوم.
 ثم أجرى الاستفتاء، فوقفنا نحن مع انتخاب الرئيس مبارك، ودعونا جماهيرنا إلى انتخابه، بينما وقف التجمعيون وأنصارهم ضد التصويت له.
 وفى الفتره التالية للاستفتاء وتنصيب الرئيس، توالت منه الخطوات الإيبجابية، فقد أمر بسحب وحفظ قضية الإنتفاضة فقررت المحكمة الجديدة التى كانت قد بدأت فى نظرها تنفيذاً لقرار السادات، قررت تأجيلها إلى أجل غير مسمى، وهو ما يعنى حفظها، واستفادت عناصر التجمع التى كانت متهمة فى القضية، كما أستفدنا نحن من هذا القرار، رغم الفارق الكبير بين موقفنا وموقفهم من الرئيس الجديد. وأمر الرئيس بإعادة النظر فى السياسات والأوضاع الاقتصادية التى كانت مقررة منذ عهد السادات، ودعا إلى عقد مؤتمر اقتصادى يشارك فيه الخبراء الاقتصاديون من مختلف الاتجاهات، لمراجعة تلك السياسات والأوضاع، وتم عقد هذا المؤتمر، وقام بإصدار قرارات ايجابية بناءة فى ذلك الحين.
 وعلى الصعيد العربى، انتهج الرئيس مبارك سياسات ومواقف إيجابية لتحقيق المصالحة بين مصر وبين مختلف الدول العربية، ورأب الصدع فى علاقاتها مع تلك الدول، ذلك الصدع العميق الذى كان السادات قد أحدثه مع معظم تلك الدول.
 وكذلك الحال فى علاقات مصر مع الاتحاد السوفيتى، ومع الدول الاشتراكية، ودول عدم الانحياز الأخرى، وذلك بما يحقق المصالح المصرية، السياسية والاقتصادية والعسكرية.
 كانت تلك مرحلة واعدة فى وضع النظام المصرى، تبشر بمزيد من الإصلاح والمصالحة، لو سارت الأمور فى نصابها المأمول. وكان ذلك يثبت بوضوح، صحة الخط السياسى الذى انتهجناه تحت راية اليسار الوطنى، وخطأ وخطل الخط المغامر الذى انتهجه التجمعيون وأنصارهم من أدعياء الثورية والتطرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق