ذكريات شاعر مناضل: 46- دنيا الشعر

46- دنيا الشعر

   لم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمرى حين توفى والدى - الشاعر الضابط الوطنى - محمد توفيق على 1882 - 1937، ومع ذلك فأنا أعتبره أستاذى الأول فى الشعر. وكان قد تلقى تعليمه الأول فى كتاب قريتة - زاوية المصلوب مركز الواسطى - بنى سويف، ثم انتقل إلى القاهرة حيث ألحقة والده المرحوم الحاج أحمد على - الذى كان مزارعاً ثرياً، بمدرسة القربية الأبتدائية، وأسكنه لدى بعض معارفه فى ذلك الحى العريق من أحياء القاهرة - حى عابدين. وبعد القربية التحق بمدرسة الفنون والصنايع، ثم بالمدرسة الحربية، حت تخرج منها ضابطاً وألحق بالجيش المصرى بالسودان.
 وكان قد تلقى موهبة الشعر من خالقه سبحانة وتعالى، ثم قيض الله له أن يكون تلميذاً فى اللة العربية الحربية لشاعر كبير، هو المرحوم الشاعر محمد عبدالمطلب، فتلقى عنه فن الشعر ونمت وترعرعت موهبتة الطبيعية على يد ذلك الأستاذ الكبير.
 وكانت أولى القصائد التى عرفتها من شعر والدى، تلك القصيدة التى عثرت عليها عند شقيقتى الأكبر بهيجه مكتوبة بخطه الواضح الجميل، وعنوانها "من الهديل إلى المطوقه"، وكان ذلك عقب وفاته بأيام، فأخذتها معى إلى المدرسة - مدرسة صدق الوفاء الأبتدائية ببولاق، وجعلت أقرأ  فيها فى حصة اللغة العربية، قراءة صامتة فبدأت أعى معانيها وأتأثر بها حتى أخذت دموعى تنهمر تأثراً بالشعر، وحزناً على وفاة والدى، حتى رآنى أستاذ اللغة العربية - الأستاذ عبدالسلام، وعرف الأمر، فطلب منى أن أقرأ القصيدة بصوت مسموع على زملائى فى الفصل، ففعلت وكان أول عهدى بالشعر.
   فى تلك الأيام بدأت أهتم بشعر والدى، وعرفت أنه كان قد ترك خمسة دواوين مخطوطة بخطة الجميل عند وفاته، ولم يكن قد طبع له فى حياته إلا ديوان واحد هو "ديوان التوفيق" فى سنه 1910، وكان قبل وفاته قد جمع كل أشعاره ونظمها وقام بنسخها فى الدواوين الخمسة: قفانبك، السكن، الروضة الفيحاء، تسبيح الأطيار، ترنيم الأوتار، وكان قد عزم على الدفع بها إلى الطبع، حتى أنه أعد لها الكليشيهات، ولكن القدر لم يمهله حتى يفعل ذلك، إذ داهمه المرض، ثم توفى إلى رحمة الله فى أثر ذلك.
  كنت قد عرفت ذلك كله، لكنى لم أكن قد عرفت مصير هذه الدواوين الخمسة من شعر والدى، إذ أننى لم أكن أعيش فى بيتنا فى ذلك الوقت بل عند شقيقتى بهيجة بالقاهرة. ثم بدأت أهتم بمصير تلك الدواوين وأتحرى عنها، حتى علمت بعد ذلك، أن شقيقى الأكبر يوسف كان قد تركها وديعة لدى أحد أقاربنا فى القرية - وهو المرحوم يوسف أبو زراع - وذلك قبل أن يترك شقيقى القرية مهاجراً.
 وكان عمرى إذ ذاك قد بلغ الثالثة عشر، وكنت أعيش فى الإجازة الصيفية لدى عمتى هانم فى قريتنا الزاوية. وكان منزل يوسف أبو زراع هذا ملاصقاً لمنزل عمتى. وقابلت يوسف أبو زراع وسألته عن دواوين أبى، فنفى علمه بشئ عنها، أو أنها عنده. ويبدو أنه رآنى صغيراً بحيث لايمكنه أن يعطيها لى أو يخبرنى بأمرها. تحريت الأمر فتأكدت ان الدواوين قد سلمها شقيقى إلى قريبى هذا - يوسف أبو زراع. أخبرت عمتى هانم بالأمر، ورغم أنها كانت سيدة آميه، إلا أنها تفهمت الموقف، وتجاوبت معى، ثم نصحتنى بأن أتسلق من منزلها إلى منزل يوسف أبو زراع - الملاصق - فى غيابه، وأن أتسلل إليه، بحثاً عن دواوين والدى. وفعلت ذلك حسب إرشادات عمتى هانم، ولا أنسى ما حدث لى فى ذلك اليوم.
 ترقبت خلو منزل يوسف أبو زراع، إذ ذهب هو إلى عمله، ونزلت زوجته ناعسه إلى أسفل الدار، لتباشر بعض مهامها. تسلقت أنا ابن الثالثة عشر، إلى سطح منزل عمتى، وتسللت منه إلى سطح منزل يوسف أبو زراع الملاصق، ثم جلست كامناً حتى تأكدت أن غرفة يوسف - المقعد- فوق السطوح خالية. تسللت إلى تلك الغرفة ودفعت بابها - ولم يكن محكم الإغلاق، فانفتح تسللت إلى داخل المقعد وتفحصت محتوياته فى عتمه المكان، غير الدامسة
 فلم أجد شيئاً يمكن أن يكون الشعر مودعاً فيه إلا دولاب ملابس. عالجت دلفه الدولاب بكل حذر وبطء حتى انفتحت. وجدت فى قاع الدولاب صره كبيرة، تحسستها فأيقنت أنها تحتوى على أوراق كثيرة. كانت الصرة عبارة عن جلباب من الكستور تذكرت أنه كان لوالدى. حملت الصرة وعدت أدراجى، فأطلعت عمتى على ما حدث، وفتحنا الصره، فوجدت الدواوين الخمسة، دواوين أبى، التى تحتوى على أفكاره ومشاعره التى بقيت بعد رحيله. لم تملك عمتى دموعها التى انهمرت، ثم انحنت على رأسى تقبلها.
 تركت الصره عند عمتى هانم، ثم أخذتها معى عند عودتى إلى القاهرة، أما يوسف أبو زراع - فحين رآنى بعد ذلك - لم يقل شيئاً، ولكن بدا عليه أنه فهم ما حدث، وآثر الصمت، تنقلت الصره عده مرات، من منزل شقيقتى بهيجة، إلى منزل شقيقتى سعاد، إلى أن استقرت بعد ذلك بخمسة عشر عاماً فى منزلى، حين أصبح لى منزل. وبعد دخولى السجن، ظلت الصرة فى حيازة سهير، حتى خرجت أنا بعد خمسة أعوام .. إلخ.
 المهم، أننى منذ حصلت على أشعار والدى، دأبت على الجلوس إليها، أيا كان المكان الذى توجد فيه، لأقرأ فيها، وكنت قد بدأت أكبر ومداركى تتسع. قرأت الدواوين الخمسة عدة مرات، واستمتعت بها، حتى كدت أحفظها. وهكذا تعلمت الشعر، على يد والدى، رغم رحيلة. عندما بدأت ظروفى تستقر، بدأت أسعى إلى طبع دواوين والدى. لجأت إلى الدكتور ثروت عكاشة عندما كان وزيراً للثقافة، فوعدنى بالمساعدة، وأحالنى إلى الأستاذ آمين العالم الذى كان رئيساً لمؤسسة النشر، ولكنه لم يعطنى عقاداً نافعاً. خشيت على الدواوين من أن تتلف بعد مضى الوقت وقدم الورق المكتوبه فيه. اتفقت مع الزميل المرحوم عبدالمنعم سعودى، وكان شاعراً، وكان خطة جميلاً، على أن يقوم بنسخ تلك الدواوين، وأن يحضر لذلك إلى منزلى كلما أستطاع. واستمرت هذه العملية لمدة سنوات إلى أن تمكن أخيراً من إنجازها، وأصبح عندى نسخه حديثة، جيدة الأوراق من الدواوين الخمسة.
 حملت الدواوين إلى المجلس الأعلى للثقافة، وعرضت الأمر على الدكتور جابر عصفور، الأمين العام للمجلس، فمد يد المساعده، وأحال الأمر إلى لجنه الشعر بالمجلس، فى لجنة الشعر، مريت ببعض الخيبات، إذ تصدى بعض أعضائها المتقعرين، فأفتى بعدم طبع الدواوين، بحجه أنها شعر عمودى، فى حين أنهم ضد الشعر العامودى بصفه عامة ولا يرون أهمية لنشر شعر عامودى أخر. وأخيراً قيض لى الله نصيراً، هو الدكتور حسن فتح الباب، الذى تصدى لهذا العبث فواجهه مواجهة حاسمة، وأستخلص بصعوبة قراراً من اللجنة، بنشر هذه الدواوين. وأخيراً وبعد معاناه وصبر يشبه صبر أيوب، تم نشر أشعار والدى، فى الهيئه العامة للكتاب سنه 1996، أى بعد ستين عاماً كاملة على وفاة والدى. تم طبعها تحت عنوان "الأعمال الكامله - ديوان توفيق - للشاعر محمد توفيق على"، وطبعت فى مجلدين، أشتمل المجلد الثانى على ديوانى: الروضه الفيحاء ، وترنيم الأوتار.
 وقدم للمجلد الأول، الشاعر الكبير، الدكتور حسن فتح الباب بمقدمه رائعة، كما قدم للمجلد الثانى، الأستاذ والناقد الكبير، الدكتور محمد عبدالله عباس،الذى كان قد نال شهادة الماجستير قبل ذلك بسنوات، على أثر الدراسة القيمة التى قام بها عن الشاعر محمد توفيق على - حياتة وشعره.
 وبذلك أستراح ضميرى، إذ تمكنت بعد ستين عاماً من موت والدى، أن أستنفذ تراثه الشعرى الجميل، من الضياع والاندثار، وأن أضعه أمانه فى يد التاريخ الشعرى والأدبى فى مصر، والعالم العربى.
  كانت تلك هى حكاية شعر والدى، رحمة الله عليه، أما عن شعرى أنافله حكاية أخرى.
 كنت قد بدأت فى نشر قصائدى منذ عام 1945 وأنا طالب فى الجامعه، نشرت العديد من القصائد فى المجلات التقدميه التى صدرت فى ذلك العهد، أم درمان، الفجر الجديد، الجماهير، الملايين، الطليعة، ثم بعد ذلك فى مجلة الكاتب لسان حال حركة السلام، عند صدورها.
 ثم بعد ذلك، وأنا سجين فى سجن واحه جناح، أصدرت دار الفكر للنشر، قصيدتى أعياد فى مجموعة شعرية بعنوان: قصائد مصرية، ضمت قصائد أخرى لشعراء آخرين، منهم كمال عبدالحليم، ومعين بسيسو، وجبلى عبدالرحمن، وآخرين.
 بعد خروجى من السجن عام 1959، قمت بنشر ديوانى الأول - أعياد عام 1964 فى المؤسسة العامة للكتاب التى كان يرأسها الراحل صلاح عبد الصبور، وكان يرأس إدارة النشر فيها الشاعر أحمد مخيمر.
   بعد ذلك، أصدرت الهيئه العامة للكتاب، التى كان يرأسها وقتئذ الدكتور عبدالعزيز إسماعيل، طبعة ثانية من ديوان أعياد، ثم تلتهابإصدار ديوانى الثانى: أنشودة للوادى المقدس، بمقدمة للعزيز عبدالرحمن الشرقاوى. ثم أصدرت لى فى نفس الفتره ديوانى الثالث بعنوان: ما بعد الحب.
 بعد ذلك أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة ديوانى الرابع بعنوان: قصائد فى الحب والحزن. ثم أصدرت لى دار الثقافة الجديدة ديوانى الخامس والأخير، وهو بعنوان: دمع على طلل، وهو أسم قصيدة مطولة كنت قد كتبتها عن الاتحاد السوفيتى بعد انهياره وزواله.
 بعد ذلك، قامت الهيئة العامة للكتاب، فى آخر عهد الراحل الدكتور سمير سرحان، بإصدار ديوانى الكامل تحت عنوان: مختارات من شعر محمود توفيق، وهو يضم الدواوين الخمسة التى سبق ذكرها، وقد صدر اليوان فى مجلد واحد، بمقدمة جميلة للشاعر الكبير حسن فتح الباب، ثم بمقدمة أخرى للديوان الأخير " دمع على طلل"، للناقد الكبير، الأستاذ الدكتور محمد عبدالله عباس، أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالزقازيق.
 وتضمنت هذه الدواوين، معظم قصائدى، لا يستثنى منها إلا عدد من القصائد التى أخطاها الحصر مما كتبته فى مركلة مبكرة من حياتى، وعدد آخر من القصائد التى كتبتها فيما بعد مركلة طبع الديوان.
 وأنا طبعاً معجب بكل قصائدى، ومعتز بها، خاصة تلك القصائد المطولة الكبيرة ذات السمات الملحمية التى تحفل بها الدواوين الخمسة، وخاصة أخرها، وهى القصيدة التى سميت بها ديوانى الأخير: دمع على طلل، والتى سجلت فيها أفكارى وخواطرى ومشاعرى، عن ذلك الحدث التاريخى الهائل. والفاجع، حدث انهيار الاتحاد السوفيتى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق