ذكريات شاعر مناضل: 41- مرحلة تحول

41- مرحلة تحول


   كان عام 1981 مرحلة انتقالية بالنسبة لى، وبالنسبة لمجموعتنا كذلك. كانت قضية الانتفاضة قد صدر الحكم فيها، ببراءتى وبراءة كل المتهمين من المجموعة، ومعظم المتهمين عموماً، وبذلك استقرت أحوالنا الاجتماعية والمعيشية، وبدأنا نتمكن من التحكم فى أوضاعنا.
 وتوافق أعضاء المجموعه، وفى مقدمتهم سالم- سعد كامل، وعاصم- رشدى أبو الحسن، وأحمد- عبد القادر شهيب، ووائل- أحمد حمروش، وغيرهم، على تكليفى بقيادة العمل، لمدة سنة كاملة قابلة للتجديد، وأن يعاد النظر بعد ذلك فى كيفية تنظلم العمل على ضوء ما تنتهى إليه الأوضاع.
 وبدأت فى ممارسة مسئوليتى، وكنت متفرغاً- أو شبه متفرغ لها تماماً، إذ كنت محالاً من قبل إلى المعاش، وليس لى عمل منتظم آخر، عدا العمل الذى أسنده إلى الصديق عبد الرحمن الشرقاوى كمستشار قانونى لمنظمة التضامن الأفرو آسيوى التى كان رئيساً لها، ولم يكن هذا العمل يستنفذ الكثير من وقتى أو طاقتى.
 كنت ألتقى مع المجموعة القايدية- سعد كامل، ورشدى أبو الحسن، وعبد القادر شهيب، وأحمد حمروش، وزهدى، ومحمد شطا، بصورة مستمرة، لمناقشة أوجه نشاطنا، ومختلف الأمور السياسية والتنظيمية التى تعرض لنا. وكان كل منهم يلتقى بعدد آخر من أفراد المجموعة أو من العاطفين، من الفنانين- أمثاال زهدى، وجمال كامل- وأبو العنين- وبهجت- والقصاص- وغيرهم، وكان المسئول عن الاتصال بهم هو رشدى أبو الحسن، وكان منهم حسام مندور، وعلاء الديب- ومصطفى نبيل، وغيرهم وكان زهدى على اتصال بمجموعة أخرى من الفنانين والأدباء كما كان شطاً على اتصال بمجموعة مختلفة من الأفراد- من الأعضاء أو العاطفين، من العمال والفلاحين، وغيرهم. أما أحمد حمروش، فكان له نشاط واسع النطاق فى حركة التضامن، وفى اللجنة المصرية للتضامن، التى كان قد أصبح سكرتيراً عاماً لها.
 كانت طبيعة المرحلة التى نمر بها، وطبيعة العالبية من العناصر الدين تتكون منهم مجموعتنا ومن حولها من الأعضاء والعاطفين، تفرض علينا أطاراً مرناً للعلاقات التنظيمية، إطاراً تغلب علية العلنية، ويتحرر من الورابط الجامده التى يفرضها العمل السرى. وكان هذا هو الحل الوحيد الذى يفرضه الوقاع السياسى والعملى لاستمرار نشاطنا فى تلك الظروف.
 بدأنا نتجه بقوة نحو العمل الجماهيرى، وتوجهنا فى ذلك إلى الاستفادة بمظلة اللجنة المصرية للتضامن، كإطار وغطاء لعملنا الجماهيرى كنت أنا وسعد ورشدى قد أصبحنا أعضاء فى هيئة مكتب تلك اللجنة، . وهى الهيئة القيادية فيها. وكان الكثيرون من زملائنا- الأعضاء والعاطفين- قد أصبحوا أعضاء فى اللجنة، وفى لجانها الفرعية، وقد بذلوا فى تلك اللجان مجهودات واضحة ملموسة.
  واشترك هؤلاء الزملاء- مع غيرهم من العناصر- فى اللجان النوعية الرعية، وخاصة فى لجنه الشباب- التى كانت قد أصبحت رئيساً لها، وكان لها نشاط جماهيرى واسع فى وسط الشباب. كما قام شطا بتشكيل لجنة إقليمية فى طنطا، كان هو مسئولاً عنها. وكذلك قام إبراهيم الشريف بتشكيل لجنة فى بنى سويف، كان هو مسئولها.
  وكنا فى تلك اللجان والهيئات نمارس أنشطة متنوعة- سياسية ودعائية وجماهيرية، لا تختلف كثيراً عن الأنشطة التى تمار فى الأحزاب السياسية، بما فيها الحزب الشيوعى، ولكن فى إطار العلنية والشرعية.
  أما أنا، فعملى فى منظمة التضامن- إلى جانب عبد الرحمن لشرقاوى، كمستشار قانونى، يضعنى فى قلب الأحداث السياسية- الداخلية- والعربية- والدولية.
  كانت تلك المرحلة، بالنسبة لى- مرحلة تأمل ومراجعة عميقة للأفكار والمواقف. وكان تفكيرى يتركز حول حقيقة، مامنيت به الحركة الشيوعية المصرية من إخفاقات متتالية، على مدى تاريخها الطويل.
  فالحزب الشيوعى الأول، حزب سنة 1920 والذى كان حزباً شرعياً وعلنياً، ما لبث أن تعرض للحل والتجريم سنه 1924 على يد سعد زغلول وحكومته البورجوازية الوطنية، وما لبث أن تحلل وزال بعد سنوات قليلة من المقاومة.
  والحكرة الشيوعية الوسيطة، التى قامت فى أوائل الأربعينات من القرن الماضى، والتى تمثلت فى منظمات الحركة المصرية للتحرر الوطنى، وغيرها، ثم فى منظمة حدتو وغيرها، ثم فى الحزب الشيوعى الموحد، ثم المتحد، ثم الواحد، سنه 1958، كلها ما لبث أن تعثرت، فأنقسمت، وانحلت، وزالت، حتى قام قادتها بإعلان حلها فى عام 1965.
  وها هو الحزب الشيوعى الحديث، الذى أقمناه فى عام 1971 بنضال وجهود جبارة، ها هو يمنى بالخيبة والإخفاق، فيتعرض لكارثة التكتل والانقسام، فى سنة 1977، ثم تصبح بقاياه الباقية، فى مهب الرياح.
  ثلاثة تجارب متتالية، على مدى ستين عاماً، منذ عام 1920 إلى عام 1980، بذل فيها مئات، بل آلاف المناضلين، جهوداً خارقة، وتضحيات قاصمة، دون أن يحققوا هدفهم، فى إقامة حزب شيوعى ثابت القوائم قادر على البقاء، أو على إنجاز مهمتة التاريخية.
  -ثم كنت أتساءل: ماهو سبب كل هذا الفشل المتكرر؟ وهل من العقل أن نظل نواصل السير فى نفس الطريق، للمرة الرابعة؟ وهل ينتظر لهذه المحاولة الجديدة أن تسفر عن نتيجة مختلفة؟
  -ثم بدات اتساءل: ما هى أسباب هذا الفشل المتكرر فى إقامة حزب شيوعى قابل للبقاء والنجاح فى مصر؟
  -لاشك أن المقاومة الطاحنة، التى بذلها الاستعمار، ونظام الحكم اليمنى، والطبقات والفئات البورجوازية والرجعية المسيطرة، تلك المقاومة الأمنية والفكرية والدعائية الشرسة، لاشك أنه كان لها أعظم الأثر فى تحطيم كل الجهود والتى بذلها الشيوعيون فى إقامة حزب قادر على البقاء.
  ولكن السؤال مازال قائماً: لماذا؟ وما هى نقطة الضعف الأساسية التى مكنت أعداء الشيوعية من اقتلاع حزبها الوليد، مره بعد أخرى؟
  لاشك أن نقطة الضعف الرئيسية التى كانت تمكن أعداء الحزب من ضربة واقتلاعه، كانت كامنة فى عدم قدرتة على الحصول على تأييد الشعب أو قناعتة. والسبب الرئيسى فى ذلك، كان هو مسحة الإلحاد التى ألصقت بالشيوعية،والتى وجدت فى ممارسات بعض الشيوعيين وأفكارهم ما يؤيدها، وما يقف حائلاً دون احتضان الشعب المصرى المسلم- لمبادئها، رغم جاذبية الكثير من المبادئ والمواقف الأخرى للشيوعية والشيوعيين.
  -وبدا لى أن هذه المعضلة غير قابلة للحل. وسوف تنهض عقبة -المرة تلو المرة- أمام بناء حزب شيوعى ينال تأييداً واسعاً من جانب الشعب المصرى.
  -ثم، من ناحية أخرى- توضح لى، أن مسحة الإلحاد اللاصقة بالحركة الشيوعية، ليست فى الواقع بعنصر رئيسى أو هام فى المبادئ والأفكار الرئيسية لتلك الحركة، وما هى إلا زائدة دودية وجدت فى فكر الشيوعيين الأوائل- ماركس وإنجلز ولينين- وغيرهم، ودخلت إلى أفكارهم من خلال تأثر أفكارهم الفلسفية، بالفلسفة المادية الأوروبية التى كانت سائدة قبل ظهور الماركسية. كما تأكد لى أن إسقاط هذه المسحة الإلحادية من الماركسية والشيوعية، لن يغير من حقيقتها، ومن جاذبيتها الفكرية والسياسية والاجتماعية فى شئ.
  -وظهر لى أن هذه النتيجة هى ما توصل إلية رعيل من المفكرين والسياسيين التقدميين المصريين من قبل.
  -وكان عبد الرحمن الشرقاوى قد توصل إلى هذه الفكره منذ زمن طويل، فاتجه فى مؤلفاته وكتاباتة الإسلامية العديدة إلى هذا الاتجاه، وإلى الفصل بين فكرة الاشتراكى التقدمى، وبين الإيمان العميق بالإسلام، ومن ثم فقد بدأ مؤخراً يرفع شعار اليسار الوطنى، كعنوان لنشاطه وقناعاته.
 وكان يوسف صديق قد اتجه إلى نفس الاتجاه، على ما أوضحه صراحة ف مذكراته عن دوره فى ثورة يوليو.
  -وان خالد محى الدين، على ما كان معلوماً، قد اتجه هذا الاتجاه.
  -بل وكان محمد على ماهر، على ما علمت منه، قد اتصل بالحركة الشيوعية وتأثر بها مرحلة مبكرة من حياتة، ولكنه ما لبث أن أبتعد عنها لنفس السبب.
 وخلصت من ذلك كله، إلى وجوب انتهاج هذا السبيل، إذا أردنا أن ننجو من نفس المصير الذى آلت إليه المنظمات الشيوعية السابقة.
  -ومن ناحية أخرى فقد كان تطرف الشيوعيين فى تحديد أفكارهم عن التطبيق الاشتراكى، وبالذات، عن دكتاتورية البروليتاريا، يسبغ عليهم مسحة من الدكتاتورية، ومجافاة الديموقراطية. وتبعدهم عن قلوب وعقول معظم النخب السياسية والثقافية فى البلاد، كما تطبع برامجهم وأفكارهم بطابع من الجمود الفكرى والسياسى .. إلخ.
  -ومن ناحية ثالثة، فقد كانت الأسس التنظيمية التى تقوم عليها الأحزاب الشيوعية، وأهمها- المركزية (الديموقراطية) وتطبيقاتهان تطبع التنظيم الشيوعى بطابع تحكمى سلطوى غير محبوب.
  -وأخيراً، فقد كان هناك عيب جوهرى آخر فى التنظيمات الشيوعية، وهو تلك الحدة والشراسة التى كانت تطبع عمليات الصراع الداخلى داخل الأحزاب والتنظيمات الشيوعية، والتى كانت نتيجتها المحتومة، هى تلك الأزمات، والتكتلات، والانقسامات، التى هدمت كيانها، المرة تلو المرة. والتى كنا ما نزال نعانى من آثارها المدمرة حتى ذلك الحين.
 وجدت نفسى، خلال ذلك العام- أتحول بشكل تلقائى وبالتدريج، إلى هذه القناعات، كما أحسست بإن معظم الزملاء يتحولون تدريجياً إلى تلك الأفكار والمواقف.
  -وكانت ظروف التنظيم- وإطاره المرن- تتفق مع هذا التطور الفكرى، وكانت الأوضاع العامة، المصرية والعالمية، تشجع على التحول إلية. فما أن انتهى عام 1981، حتى كنت، أنا ومعظم أفراد مجموعتنا، قد تحولنا إلى ذلك الفكر، بصورة تلقائية- وبالتدريج.
  -وكان لابد أن أتوقف عند نقطة ضعف أساسية أخرى فى التجارب السابقة. ألا وهى نقطة السرية. إذ تأكد لى أن هذه السرية هى إحدى العلل الأساسية فى التنظيمات والتجارب السابقة، وهى تتنافى مع اليموقراطية الداخلية، وتشكل المناخ الملائم لكل الأساليب التآمرية فى العمل الحزبى، كما أنها تشكل المناخ المناسب للتكتل والإنقسام، وللتغلغل والاختراق الأمنى.

...
 وفى نهاية تلك المرحلة، كنا قد انتقلنا من مواقع الفكر الشيوعى التقليدى- إلى موقع أكثر تحرراً وواقعية، يرنكز على المرتكزات الآتية:
  -فكرياً وسياسياً، المفهوم الاشتراكى الديموقراطى للماكسية، بدلاً من الأفكار الشيوعيه الجامدة.
  -التخلص من مسحة الإلحاد التى كانت لاصقة بفكرنا الشيوعى أو الاشتراكى تماماً، وتقبل الفكر القائم على عدم وجود تناقض أساسى بين الاشتراكية وبين الدين، بمفهوماته الصحيحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق