ذكريات شاعر مناضل: 34- فصل الخطاب

34- فصل الخطاب


   كان المنزل الذى استأجره لى الدكتور على مرتضى، بإسمه هو، عبارة عن فيلا صغيرة تقع فى ناحية من نواحى مدينة حلوان، قريباً من محطة القطار، ومن سرة المدينة، ومن سوقها الرئيسية، وكانت فى نفس الوقت تقع على مشارف منطقة خلوية من مناطق المدينة، وعلى الطريق الرئيسى الذى يؤدى إلى العبن الجديدة خارج العمران.
 كان عبارة عن فيلا صغيرة حسنة المظهرن تحف بها خميلة من الأشجار المتلفة الباسقة، وملحق بها قطعة من الأرض الرملية الخالية. وكانت لها شرفة كبيرة فى ناحيتها الشرقية، تظللها تلك الأشجار، وشرفة أخرى صغيرة، تقع فى الناحية الغربية، وتطل على الأرض الخالية، وتغمرها أشعة الشمس الدافئة فى فترة ما بعد الظهيرة.
 وكانت الفيلا تحتوى على غرفتين، إحداهما كبيرة فيها طاقم من الأرائك والمقاعد الأسيوطى، كمكان مريح للجلوس، وفيها منضدة كبيرة تحف بها بعض المقاعد، كمكان لتناول الطعام، أو للقراءة والكتابة. كما تحتوى على غرفة أخرى للنوم، بها سريران، ودولاب للملابس. وكانت هناك طرقة تؤدى إلى مطبخ وحمام.
 أعجبتنى تلك الفيلا من كل النواحى، أعجبتنى موقعها، وتكوينها الداخلى، ومظهرها الخارجى، فأحببتها من أول نظرة.
 بدأت استقر فى هذا المنزل، وبت فيه بضعة ليالى دون أن يزورنى زوار الليل. فتأكد لى أن ما كان يحدث لى- هناك- كان أمراً حقيقياً، لا وهماً، ولا خيالاً، وأنه كان مرتبطاً بذلك المكان وحده.
 ثم بدأت ساقاى وقدماى تتوقان إلى ممارسة المشى والتجول، فبدأت أخرج واتجول- قليلاً قليلاً فى هيئة الشيخ عبد الباقى طبعاً.
 خرجت فى جولة قصيرة فى المنطقة الهادئة المتصلة بالمنزل، ثم فى جولة أخرى إلى السوق. فاشتريت بعض اللحم والخضار والموز والبرتقال. وأكرمنى الجزار حين رآنى فى هذا الزى، فأعطانى- فوق كيلو اللحم، قطعة من الكبد- فوق البيعة- طالباً منى أن أدعو له، فدعوت.
 وحين عدت إلى المنزل، قسمت اللحم قسمين- قسماً وضعته فى الثلاجة، وقسماً سلقتة وصنعت على حسائه شوربة خضار، ثم أكلت وحمدت الله.
 وخرجت إلى الناحية الأخرى من المنزل، إلى الطريق المؤدية إلى العين الجديدة، خرجت إلى هناك عدة مرات، حيث كان يطيب لى السير فى هذا الطريق الخالى- شبه الصحراوى.
 ولكنى فوجئت، وأنا أسير فى ذلك الطريق- ذات مرة- فى هيئة الشيخ عبد الباقى، بشخص كان آتياً من الناحية العكسية، إلى أن صار أمامى وجهاً لوجه، وإذا به يتوقف، ويتقدم نحوى مصافحاً وهو يقول:
 - إيه ده - الأستاذ محمود؟
عجبت لكونه تعرف على بتلك السهولة، وعرفته أنا بدورى. كان هو أحد الزملاء المحامين الذين كنت أعرفهم، وهو الأستاذ عبد البديع، وكان محامياً فى مكتب زميلنا زكى مراد المحامى، وقدرت أنه كان يعرف بلاشك عن هروبى من الأمن. سلم على وقال:
 -إيه ده؟ وبدا عليه أنه يستغرب وجودى فى هذا المكان، وينتقده. ولكننى لم أعره اهتماماً وقلت له:
 -فرصة سعيدة. ثم:
 - عن إذنك.. ثم تأهبت لاستئناف المسير. فقال لى بلهجة صادقة:
 -مش عايز حاجة؟ فأجبته:
 -لأ - شكراً-
  ثم واصل كل منا سيره. انزعجت مما حدث، ولكن خامرنى الشعور بصدق الرجل، وأمانته، فما لبثت أن تناسيت الحادثة.
 وفى مرة أخرى، وكنت أسير فى نفس المنطقة، ولكن بعيداً بعض الشئ، فى هيئة الشيخ عبد الباقى أيضاً، فوجئت بشخص من بلدتى- زاوية المصلوب- سائراً فى نفس المكان، وكنت أعرفه ويعرفنى- واسمه محمد مخلوف- وكان من العمال الذين أتت بهم حركة التصنيع إلى منطقة حلوان. فوجئت به يتوقف ويتقدم نحوى وهو ينظر إلى فى ذهول، ثم صادفحنى دون أى كلام، وسألنى: هل أريد شيئاً. فأجبته بالنفى، ثم انصرفنا، كل إلى حال سبيله.
 بعد ذلك ببضع سنوات، بعد أن انقضت تلك القصة وولت، قالى لى أخى محمد، الذى يقيم بالزاوية- قريتنا- إن هذا الشخص - محمد أبو مخلوف، قابلة فى تلك الأيام، وروى له إنه التقى بى أثناء هروبى فى منطقة حلوان، وأنا فى زى أحد الأعراب، ثم أضاف إننى كنت أسوق أمامى عدااً من الجمال التى أتولى رعيها!.
 ...
 زارنى الإخوان- محمد على ماهر، وسعد مكاوى، فى مقرى الجديد، وذلك بإرشاد من الدكتور على مرتضى. حضر سعد ببدلته العادية، أما ماهر، وهو مقيم بحلوان، فقد حضر يرتدى جلباباً من الصوف، وفوقه معطف، وكانت بيده عصاه الشهيرة التى كان يدق بها الأرض فى مشيته. حضرا إلى قبل الظهر، وشربا معى شاياً قمت بإعداده لهما، ثم جلسنا نتحدث فى مختلف الموضوعات، السياسية والدينية والأدبية، إلى ما بعد أذان العصر، ثم قمنا نسير بشكل عادى، إلى مطعم قريب من ميدان المحطة، هو مطعم العائلات، كاناهما يرتديان ملابسهما التى ذكرتها، أما أنا فكنت أسير معهما فى هيئة الشيخ عبد الباقى.
 وكان مزاجنا نحن الثلاثة رائقاً وصافياً. فى المطعم، الذى يعتبر هو أفضل مطاعم المدينة، تناول ماهر وسعد الكباب والكفتة المشوية التى يشتهر بها المطعم، وتناول الشيخ عبد الباقى صحناً من الفته باللحم، وهو ما كان يتفق مع هيئته.
 وبعد الغداء، عند حلول المغرب، انصرفنا، ماهر إلى بيته فى حلوان، وسعد إلى محطة القطار ليستقل قطاراً إلى المعادى، وأنا إلى منزلى الجديد.
 وتكررت هذه الزيارات بعد ذلك، ماهر وسعد معاً، أو كلاً منهما على حدة، زيارات تعمقت معها أواصر الصداقة والأخوة بيننا بعد ذلك، حتى لقى كل منهما وجه ربه الكريم بعد ذلك بسنوات طوال، كما بقيت تعيش فى قلبى حتى الآن.
...
 كان الدكتور على مرتضى، أو الشيخ على كما كان يلقب بين أهله وأخوته، هو الرئة التى أتنفس بها أثناء حياتى فى حلوان، أو قل إنه كان أشبه بالمنظار الذى ترفعه الغواصة وهى غاطسة تحت الماء، إلى ما فوق لجته، لترى بواسطته ما يحدث حولها وما يجرى.
 كان الشيخ على يمر على كل يومين، ليعرف منى هل أريد شيئاً، وكان يلبى كل ما أطلبه، يحضر لى أنبوبة البوتاجاز، إذا فرغت أنبوبتى، يأخذ الفارغة ويحضر المليئة بواسطة عربة حنطور يأخذها من الموقف، يحضر لى الصحف والمجلات، أحضر لى جلبا بين من الكستور قامت الست فايزة حرم الفنان محمد هجرس، والدة خطيبته هالة، بتفصيلهما لى بناء على المواصفات التى أدلى هو بها إليها. ذهب إلى منزلى- الذى أعطيته عنوانه ووصفة الطريق إليه- فى الدقى- وأدلى لزوجتى سهير، ولنجلى يوسف، الذى كان زميلاً له فى كلية الطب، بعنوان مقرى الجديد بحلوان ووصفة الوصول إليه، واتفق معهما على الموعدالذى سيحضران فيه، ثم أبلغنى به، وفى هذا الموعد، وجدتهما يطرقان باب المنزل ويحضران. أحضرت سهير بعض الملابس التى تصورت أننى احتاج إليها، ملابس داخلية، ولوازم الحلاقة، كما أحضرت بعض الأطعمة التى تعرف أننى أحبها. وقضيا معى يوما، ثم انصرف يوسف وبقيت سهير لتقيم معى يومين آخرين. وقد تكررت زيارات سهير لى على نفس النحو، وكانت فى كل مرة تحضر فيها، يأتى معها أحد أولادى، ليلى، ويوسف، ومنى، وكانوا يحضرون على نحو معين، بحيث لايثير حضورهم ريبة من يراقبهم ليعرف أين يذهبون، أو ليتبعهم بحثاً عنى.
  واتفقت معهم، على أن يعيشوا عنى، بطريقة موجهة، إشاعة أننى ذهبت إلى الجزائر، وأننى أعيش فيها منذ هروبى، ويبدو أن هذه الإشاعة، قد وصلت إلى سلطات الأمن، وتركت أثرها لديهم، إذ أن مظاهر رقابتهم على منزلى، قد بدأت تتراخى وتضعف تدريجياً.
...
كان أول من رأيته من الرفاق الحزبيين منذ اختفائى، هو الرفيق وائل -"أحمد حمروش"، إذ كان قد حضر لزيارتى منذ وجودى فى زاوية الحاج ماهر، بناء على ترتيب مع الأخ سعد مكاوى، الذى دله على المكان وحدد له الموعد، بناء على طلبى. حضر وائل وقتها، وجلس معى ساعتين فى الحديقة الخلفية للمنزل، ونقل إلى كل الأخبار عن أوضاع الحزب، وأخبار الزملاء، كما قام بتوصيل أخبارى إلى زملائنا، عن طريق الزميلين سعد كامل (سالم)، ورشدى أبو الحسن (عاصم).
 وبعد انتقالى إلى المقر الجديد، حضر إلى هناك وائل مرة أخرى- تكررت فيما بعد، بترتيب مع الأخ سعد مكاوى أيضاً.
 ثم زارنى بعد ذلك- باتفاق مع وائل- كل من سالم (سعد كامل)، وعاصم، رشدى أبو الحسن، وانتظم اتصالنا بعد ذلك، على المستويين، الشخصى والحزبى. ثم زارنى بعد ذلك، بترتيب مع الزميلين سالم وعاصم، الرفيق أحمد (عبد القادر شهيب)، الذى حضر مع خطيبته نعمت يوسف صديق، ابنه شقيقتى عليه، وكانت نعمت قد أصبحت خطيبته منذ فترة، ثم أصبحت زوجته بعد ذلك.
 وبهذه الاتصالات، التأمت الصلات الحزبية، وبدأت ممارستى للدور الحزبى، باعتبارى مسئول مجموعتنا الحزبية، فى منأى عن المجموعة الأخرى التى كان يسيطر عليها التكتل المكون من مجموعتى ناشد وشاكر.
 ثم بدأ الأخ عبد الرحمن الشرقاوى يحضر مع سعد مكاوى لزيارتى، وكان يحضر هذه اللقاءات الأخ محمد على ماهر أيضاً.
...
تلقيت رسالة من الزميل إبراهيم (مبارك عبده فضل) -عن طريق الرفيق أحمد، وكان إبراهيم هو مسئول التنظيم فى الحزب. اشتملت الرسالة على تحياته لى، وتهنئتى بالنجاح فى الهرب، (وكان هو الآخر عارباً)، ثم دعوته لى لتولى المسئولية السياسية فى اللجنة المركزية للحزب، بعد أن قبض على كل من ناشد، وأبو زيد، ولم يعد هناك من اللجنة الثلاثية سواى. كما اشتملت على دعوته لى للالتقاء به لنقوم سوياً بالترتيب لاستئناف النشاط الحزبى.
  استشرت كلاً من سالم، وعاصم، وأحمد فى الموقف ثم قمت بالرد على رسالة إبراهيم برسالة تضمنت الآتى:
   -الشكر على تحيته وتهنئته لى بالهروب.
   -الشكر على اقتراحه بأن أتولى المسئولية السياسية فى الحزب، والاعتذار عن قبول هذا الاقتراح، لعدم جدواه فى غياب الآخرين، وفى ظل التكتل الذى كان ومازال قائماً فى الحزب، والذى كان إبراهيم نفسه طرفاً أساسياً فيه. والدعوة- أولاً وقبل كل شئ- إلى الإعلان عن حل هذا التكتل، وممارسة النقد الذاتى ممن شاركوا فيه عن إقامته، وباعتبار أن الاستمرار فى هذا التكتل، هو بمثابة فرض للانقسام على الحزب.
  -وإلى جوار نقد التكتل، فالمطلوب أيضاً، هو استكمال التحقيق الذى كان قد تقرر عن ظروف وملابسات ومدى الاختراق الأمنى للحزب، الذى كشفت عنه أحداث ضربة سنة 1975، والذى كان أبو زيد مكلفاً به، والإعلان عن نتائجه، وتحديد مسئولية كل من شارك بدور فى حدوثه، وذلك كشرط لاستئناف العمل الحزبى المشترك، حتى لا نكون كالنعامه التى تدفن رأسها فى الرمال، متجاهلة الأخطار الداهمة التى تتربص بها.
 -كما اننى أوضحت للرفيق إبراهيم، عدم ارتياحى إلى اقتراحه بأن أتولى المسئولية السياسية فى اللجنة المركزية، لما يكشف عنه من تصوره أن موقفى المطالب بتلافى النقص فى التكوين القيادى، وترك هذه المسئولية شاغرة، أو تمييعها بإسنادها إلى ثلاثة أشخاص، الأمر الذى يترتب عليه فراغ فى التكوين القيادى، واستمرار فى انتهاج الصراعات غير المبدئية الرامية إلى استغلال هذا النقص، فى حين أن موقفى هذا هو موقف مبدئى لا يهدف إلا إلى تحقيق مصلحة الحزب، ودعم قوته ووحدة صفوفة.
 والخلاصة، هى أننى اشترطت لعودة العمل المشترك، أمرين، الأول هو إنهاء قيام التكتل بين مجموعتى ناشد وشاكر، ضد مجموعتنا، ونقده وشجيه والمحاسبة عليه، والثانى هو استكمال التحقيق فى الاختراق الأمنى الذى كشفت عنه ضربة سنة 1975، وتطهير الحزب من ذيولها، وكشف أسبابها وحاسبة المسئولين عنها.
 وعلمت بعد ذلك، أن رسالة الرد هذه قد وصلت إلى الرفيق إبراهيم، ولم أتلق منه بعد ذلك أيه رسالة. ولقد ظللت بعد ذلك أفكر فى رسالة إبراهيم هذه، وفى موقفه بعدها، وانتهيت أو كدت انتهى من هذا التفكير، إلى أنه لم يكن مخلصاً فى مسعاه، بل إنه كان يناور ويخادع، لتشويه موقفى، وتصويره على أننى ما كنت أسعى إلا لتحيق مأرب شخصى، ثم تعريض أمنى للخطر، بإخراجى من مخبأى الآمن لأكون عرضة للوقوع فى قبضة الأمن، ومن ثم لتشويه المغزى النضالى لهروبى..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق