ذكريات شاعر مناضل: 47- بلاد الله لخلق الله

47- بلاد الله لخلق الله


 أتاحت لى ظروف عملى فى السينما، ثم ظروف عملى فى التضامن، ثم ظروف حياتى، فرصاً كثيرة للقيام برحلات عديدة إلى خارج البلاد، قمت فيها بزيارات كثيرة إلى عدد من البلاد العربية، والإفريقية والأسيوية، والأوروبية، ثم إلى أمريكا أيضاً. والتقيت خلال هذه الرحلات بكثير من الإخوة والزملاء من اهل تلك البلاد، ومن البلاد الأخرى، ونشأت بينى وبين الكثير من هؤلاء علاقات صداقة ومودة، وأخوة وثيقة.
  - كانت ألى هذه الرحلات إلى السودان الحبيب الذى زرته ثلاث مرات، كانت أولاها سنه 1968، أثناء عملى فى مجال السينما،حيث ذهبت بصحبة أخى وصديقى العزيز عبدالرحمن الخميسى، والأخ رجاء النقاس، الكاتب والصحفى والأديب، بدعوة من صديقنا المشترك الشاعر والأديب عبدالماجد أبو حسبو الذى كان وزيراً للثقافه بالسودان فى ذلك الحين، فى الوزارة التى كان يرأسها الشاعر والمحامى والمهندس، محمد أحمد محجوب، القطب البارز فى حزب الأمه السودانى وقت ذلك، وكانت زيارة ممتعة، نعمنا فيها بلقاء الإخوة الأعزاء فى السودان عبدالماجد أبو حسبو الذى كان يستقبلنا فى مكتبه بالوزارة، أو فى بيته او فى بيوت أصدقائه فى الأماسى السودانية الكثيرة التى أقيمت للاحتفاء بنا، والمسماة بالونسة، ومحمد أحمد محجوب الذى كان يستقبلنا فى منزله العامر كل مساء، أو فى الونسات العامرة التى كانت تقام لاستقبالنا، فى بيوت كثير من أصدقاء محجوب ومعارفهـ وكثيراً ماكان محجوب يأتى- وهو يقود سيارتة المرسيدس بنفسه، إلى الفندق الذى كنا ننزل فيه- جراند أوتيل، ليصحبنا إما إلى بيته، أو إلى بيوت أخرى، ثم يعيدنا.
  هناك ألتقينا بأبناء محجوب، سيد وسامى، اللذين كانا فى خدمتنا دائماً، إكراماً لوالدهما، وقياماً بواجبات الضيافة والكرم السودانى.
 وهناك التقينا بالشاعر السودانى الكبير محمد المهدى مجذوب، واستمتعنا بالإصغاء إلى أشعاره الجميله. التقينا بالعديد من الشخصيات السودانية الأدبية، والسياسية، والفنية البارزة. وهناك التقينا برئيس جمهورية السودان، العظيم، إسماعيل الأزهرى فى مكتبه القائم على ضفه نيل الخرطوم، وهو مبنى تاريخى جميل.
 وهناك التقينا بعدد من زملائنا الشيوعيين السودانيين، ممن كانت تربطنا بهم لاقات زمالة منذ وجودهم فى مصر، وفى الحركة الشيوعية المصرية. التقينا بعبده دهب، وعبدالخالق محجوب، وعزالدين على عامر، وعوض عبدالرازق، وغيرهم. وكانت لقاءات تفيض بالود، والأدب، والشعر، والموده الخالصة.
  وفيما بعد، فى قصيدتى المسماة: العودة إلى الخرطوم، سجلت الكثير من الخواطر والمشاعر والذكريات عن هذه الزيارة، ونشرت هذه القصيدة بعد ذلك فى جريدة الأهرام، تحية لأحبابنا وأخوتنا هناك، وجاء فى ختامها:

  سلام على الخرطوم ما خفق الهوى
بقلب، ومادق الغرام بباب
أغادرها، والوجد ملؤ جوارحى
وأذكرها والشوق ملؤ إهابى..
وأترك قلبى هائماً فى رحابها
لعلى أدارى فى الجوانح مابى..

وقد زرت الخرطوم مرتين تاليتين، ولكن فى ظروف أخرى، أقل سعادة، وأكثر آسى وحزناً.
 - وكانت ثانى هذه الزيارات إلى أديس أبابا، فى زيارة عمل خاص بالتضامن، لم تدم أكثر من يومين، حيث التقيت ومعى الإخوة نورى عبدالرزاق، وكالانداروف سكرتير عام لجنه التضامن بالاتحاد السوفييتى، ومير باشا زينالوف، بأعضاء وقيادة لجنه النضامن بأثيوبيا. وأقام هؤلاء الإخوة لنا- بعد الاجتماع حفل عشاء فى أحد الفنادق بالمدينه، كل ما أذكره عنه، أنهم قد موالنا دجاجاً محمراً لم أعرف أنه دجاج إلا بعد أن سألت عن كنهه، فقد كان دجاجاً صغيراً جداً، وهزيلاً جداً بحيث لم يكن به شئ كثير ليؤكل، وعلمت أن هذا هو الدجاج الأثيوبى. وأذكر أننا خرجنا- أنا ومن معى فى المساء لنتفرج على شوارع المدينه ففوجئت بمنظر غريب، هو منظر الناس الذين كانوا يسيرون فى الشوارع، أناس كثيرون، عشرات عشرات أو مئات من رجال ونساء، يسيرون صامتين ذاهلين لا ينظرون إلى شئ ولا يلتقون يميناً أو يساراً إلى أى شئ. وهكذا- يسيرون فقط، دون أى قصد أو غاية، وكأنهم إنما يفرجون عن شئ فى نفوسهم، وكان منظرهم يوحى بالتعاسة والشقاء.
 -  وكانت ثالث رحلاتى إلى عدن، باليمن الجنوبى وقتذاك. انتقلنا أنا ومنمعى بالطائرة من أديس أبابا إلى عدن، للمشاركة فى مؤتمر للتضامن كان يعقد هناك، وتحضره الكثير من وفود لجان التضامن، العربية والأجنبيه. نزلنا فى فندق متوسط الحال على شاطئ خليج عدن، الذى يتصل ببحرب العرب من نايحة، ثم بالمحيط الهندى، كما يتصل بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب من ناحية أخرى. وكان منظر البحر والمياه مغرياً صافياً إلى درجة أننى فكرت- نظراً لحرارة الجو، أن أنزل لاستحم فى البحر. وفعلاً، لبست مايوه الاستحمام وفوقه قميص وبنطلون، ونزلت من السلم الخلفى للفندق، ووصلت إلى الشاطئ، وبينما أنا أخلع القميص والبنطلون لأنزل فى الماء جرى نحوى أثنان من الحراس، وسألونى:
 -ماذا ستعمل؟ - قلت لهم
 -سأستحم فى الماء: -ولكنهم قاطعونى صائحين:
 -إياك أن تفعل. فسألتهم:
 - لماذا؟  - فأجابونى:
 - ما أن تنزل إلى الماء تلتهمك وحوش البحر، سمك القرش المفترس، الذى يملاء الخليج وينتظر رزقه من الناس أو الدواب.
 سمعت كلامهم وعدت أدراجى إلى الفندق، فقد كان خوفى من سمك القرش لا يعادله خوفى من أى شئ أخر.

فى عدن، سألت عن صديقى وزميلى القديم: إسكندر ثابت العدنى، زميلى فى مدرسه حلوان الثانوية، وكان قد أصبح- كما عملت- شخصاً مشهوراً ومهماً فى اليمن الجنوبية، كشاعر، وصحفى، وموسيقى، ومغنى. وعرفت ممن سألتهم عنه، أنه أصبح بالفعل شخصاً هاماً فى بلده، ولكنه فى ذلك الوقت كان خارج البلاد، فى سفر إلى بريطانيا.
 وتلقينا دعوة إلى وليمة غداء أقامتها على سالم البيض، الذى تولى الرئاسة بعد مقتل عبدالفتاح إسماعيل، فذهبنا- أنا وسائر الوفود- إلى مقر الرئاسه، وكان جلوسى إلى المائدة الرئيسية، التى كان يجلس إليها الرئيس، وتناولنا طعاماً شهياً ذكرنى بما كان يقدم فى بيوت الأعيان فى صعيد مصر، أو بما كان يقدم فى المطاعم الشرقية الكبيرة فى القاهرة القديمة،أو بما كانت هناك قاهرة، وكانت هناك مطاعم شرقية.
 - وكانت رابع رحله لى إلى صنعاء عاصمة اليمن الشمال، ثم اليمن الموحد بعد ذلك. ذهبت إليها أنا والدكتور مراد غالب، وزير خارجية مصر السابق، ونائب رئيس منظمة التضامن فى ذلك الوقت، ذهبنا إلى هناك مدعوين لحضور مؤتمر كان سيعقد هناك احتفالاً بذكرى إتمام الوحدة بين شطرى اليمن، الجنوبى والشمالى، تلك الوحدة التى كانت قد تمت فى العام السابق.
 أستقبلنا الإخوة اليمنيون- من قادة المجلس اليمنى للسلم والصداقة والتضامن: الدكتور حسن مكى، رئيس المجلس، والأستاذ على لطف الثور، نائب الرئيس، والأستاذ أحمد المرونى العضو البارز فيه، والشاعر الكبير، ثم الأخ زيد مطيع دماج عضو المجلس، والكاتب القصصى والروائى اليمنى الشهير. استقبلونا فى المطار أحسن أستقبال، ثم اصطحبونا إلى أفضل فنادق المدينة، حيث لقينا كل الإكرام والتكريم.
 حضرنا الأحتفال بذكرى الوحدة، والتقينا برئيس الجمهورية- على عباس صالح، الذى ذكرنى بأبنى الدكتور يوسف، فقد كان فى مثل سنة، كما كان يشبهه إلى حد بعيد. واهتم الإخوة المضيفون بترتيب زيارات لنا إلى أماكن بعيدة، سد مأرب الجديد، الى كانوا قد أقاموه بمساعدة من الصين الشعبية، مكان السد القديم الذى كان قد انهار منذ ألفى سنة، وقيل لنا ان الصينيين قد راعوا فى بنائه نفس التقنيه التى استخدمها اليمنيون القدامى. وكان منظر البحيرة التى تكونت خلف السد من مياه السيول التى احتجزها، فى وسط الصحراء القاحلة، منظراً فريداً يسر النواظر.
 وزورنا مدينة تعز، فى غرب اليمن، بعد رحلة شاقة فى الطريق اليمنية الممتدة على حواف الجبال الشاهقة. وفى تعز، شاهدنا- أنا والدكتور مراد غالب، "قصر" الإمام أحمد، أو بالأحرى دواره، فقد كان شبيهاً بدوار عمدة صعيدى، ورثينا لحاله، وقلت أنا لمحافظ تعز الذى كان يرافقنا فى الزيارة.
 -لماذا خلعتم هذا الرجل الغلبان، إنه كان جديراً بالشفقه عليه، فقد كان منزله لا يزيد فى نظرى عن منزل عمدة فى قرى الصعيد المصرى.
 وضحك الرجل ولم يعلق، ثم أقام لنا مأدبه غداء كالمأدب التى يقيمها أعيان الصعيد.
 زرنا أيضاً مدينة صنعاء القديمة، وتجولنا فى شوارعها وأسواقها ذات الطراز العجيب حيث رأينا حوانين التجار والحرفيين، التى لا تتسع إلا لهم وحدهم، وهم جلوس على منصه فيها، لا يستطيعون حتى الوقوف.
وفى صنعاء دعينا- انا والدكتور مراد، إلى جلسة لتناول القات، فذهبنا وتناولنا فلم نشعر بأى شئ مما يشعر اليمنيون به بعد تناوله.
 -وكانت خامس رحلة لى إلى الكويت، حيث دعيت مع الأخ أحمد حمروس، وعدد من أعضاء مكتب اللجنة المصرية للتضامن، للمشاركة فى احتفال منظمة التحرير الفلسطينية بذكرى يوم الأرض، فذهبنا وهناك التقينا بالأخ ياسر عرفات، والأخ أبو إياد، وعدد من قادة المنظمة، وجرت بيننا وبينهم أحاديث هامة حول الأوضاع الفلسطينية والعربية.
 وكان من أهم أحداث تلك الزيارة، أن العزيز محمد على ماهر، الذى كان يعمل باذاعه الكويت فى ذلك الوقت، ما أن علم بوجودى فى الكويت، حتى أحضر حقيبه ملابسه، وحضر إلى غرفتى بالفندق الذى
كنا نقيم فيه، وصمم على ملازمتى، وملازمة الوفد المصرى طيلة إقامتنا بالكويت، وكان ذلك مصدر سعادة لى، وله.
 هذا وقد أتيحت لى بعد ذلك فرص أخرى لزيارة الكويت، لمناسبات مختلفه.
 -وكانت سادس رحلة لى إلى دبى بالامارات العربية المتحده، حيث زرتها أنا والراحل حمدى يوسف، ابن شقسقى، بمناسبة عمل كان يربطنا مع الأخ رحمة الأنصارى، فى شركته الفنية: الكوكب العربى للفنون.
 أقمت أياماً طيبة فى دبى فى ضيافة الأخ رحمة، وكان كريماً ودوداً مضيافاً، وبسبب هذه الزيارة، واستكمالاً لها، اتيحت لى أن أقوم بزيارة للعراق، ثم لليونان، لشئون تخص شركة الكوكب العربى. وهما زيارتان عمليتان لا داعى للحديث عنهما بالتفصيل.
 -وكانت سابع رحلاتى، إلى العراق، إذ ذهبت إليها أكثر من مرة، كانت أولاها بدعوة من الصديق العزيز عبدالرحمن الخميسى، أثناء إقامته بها. وقد نزلت فى ضيافته فى بيته، وخلال تلك الزيارة، التقيت بالأخ عزيز محمد سكرتير عام الحزب الشيوعى العراقى، وعدد من رفاقه فى قيادة الحزب، كريم احمد، عامر عبدلله، مهدى الحافظ، وكان لقاء ممتازاً، قامت بعده علاقة مودة وصداقة حميمة بينى وبين هؤلاء الرفاق. كما التقيت- بواسطه الخميسى- بالأخ العزيز، طارق عزيز وزير الإرشاد والثقافه العراقى وقتذاك، ونشأت بيننا علاقة صداقة حميمية، عفنا الله عنه، ونجاه من الضيق والكرب الذى يحيط به الأن. كما التقيت خلال هذه الزيارة بالأخ صدام حسين، الذى كان وقتها نائباً لرئيس الجمهورية، أحمد حسن البكر، وتم هذا اللقاء بترتيب من الرفيق عزيز محمد، حيث خرجت منه بانطباع جيد عن صدام، الذى حدثنى طويلاً عن حبه لمصر والمصريين منذ إقامته بالقاهره، طالباً بكلية حقوق جامعتها. وقال لى مداعباً: يعنى إحنا زملاء يا أخ محمود. رحمة الله وعفا عنة.
 هذا وقد زرت بغداد، والعراق بعد ذلك عدة مرات، فى مناسبات خاصة بحركة التضامن، وفى اجتماعات للجان التضامن العربية، ونشأت بينى وبين العديد من الإخوة العراقيين ، أواصر مودة وصداقة عميقة.
 -وكانت ثامن رحلة لى إلى اليونان، التى زرتها عدة مرات لأغراض مختلفه، كانت أهم تلك الرحلات، وأبقاها فى ذاكرتى، تلك الرحلة التى قمت بها مع سهير زوجتى، ومعنا أبنتى منى، قبيل زواجها بقليل، وكان معنا المخرج السينمائى والتليفزيونى، عبدالقادر نجيب، وزوجته "عصامه"، وكنا قد سافرنا سوياً لإنجاز أعمال تتعلق بشركة الكوكب العربى التى كنا نتعامل معها.
 أمضينا أياماً جميلة فى أثينا، وفى جليفادا، وذهبنا إلى بعض الجزر اليونانية الجميلة، ومما أذكره أن هذخ الرحلة كانت فى الوقت الذى كان أنور السادات قد أصدر قراراً فيه بحظر ذبح اللحوم وبيعها فى مصر لمدة شهر، وكان صاحب المطعم الذى كنا نأكل فيه فى منطقة جليفادا بأثينا يعلم أننا مصريون، ويعرف بهذا القرار، فكان كلما رآنا ذاهبين إلى مطعمه، يسرع فيحضر لنا صينيه كبيرة مليئة بقطع اللحم المعدة للشواء، فنضحك، ثم نأكل.
 -وكانت لى عدة رحلات متكررة إلى الاتحاد السوفيتى، أولاها كانت لحضور مهرجان موسكو السينمائى الدولى، فى يوليو سنة 1967.
 ثم تكررت الرحلات إلى موسكو، ومنها إلى العديد من أرجاء الاتحاد السوفيتى الأخرى، وذلك لمناسبا تتعلق بنشاط حركه التضامن الأفريقى الآسيوى. فى خلال تلك الرحلات تعرفت بالعديد من الشخصيات السوفيتية، منها الأخ كالانداروف، سكرتير عام اللجنة السوفيتية للتضامن، زاساخوف نائب رئيس اللجنة، الأخ كابيتزا رئيس اللجنة، وآخرين. ومن خلالها، ذهبت إلى بلدان ومناطق عديدة داخل الاتحاد السوفييتى، إلى لينجرد الساحرة، حيث متحف الإرميتاج، وهو من أعظم المتاحف فى العالم، إن لم يكن اعظمها على الاطلاق، وحيث قصر سمولنى الشهير الذى أدار منه لينين أحداث الثورة البولشفية، وحيث المدمرة "الأورورا" التى أطلقت أول الطلقات التى أسقطت النظام القيصرى سنة 1917، وحيث قصر الصيف الذى بنته القيصرة ايكاترينا فى القرن الثامن عشر، بنوافيره الرائعة، وتماثيله المذهبه،وحدائقه الغناء المطله على بحر البلطيق، ذلك القصر الذى اتخذته القيصرة عشاً لغرامياتها التى لا تنتهى.
 ثم إلى ستالينجراد، مدينة البطولة التى سجلت أروع أساطير الفداء والكفاح الوطنى على مر التاريخ الحديث. فى نضالها الذى قصم ظهر الجيوش الهتلرية الغازية. رأينا كل ذلك مسجلاً على أنقاض وآثار المدينة الباسلة، والتى تقوم إلى جوارها مدينة جديدة تحمل رايات النصر.
 وشاهدنا- أنا وسهير فى إحدى هذه الرحلات، التى كانت معى فيها، مدينة باكو الجميلة، عاصمة أذريبجان، الواقعه على بحر قزوين الشهير، كما شاهدنا مدينة سوتشى الرائعة، الواقعه على البحر الأسود، بمغانيها وضواحيها الساحرة.
 وشاهدت منطقة أرخا نجليسى، من ضواحى موسكو، حيث قصر الأمير يوسوبوف، الذى قتل فيه القس الأفاق، راسبوتين، الذائع الشهرة. وذلك قبيل قيام الثورة البلشفية بوقت قصير.
 وكان من أسعد أوقاتى فى موسكو، هو تلك الأوقات التى كنت أشاهد فيها عروض البولشوى، كلما تيسر لى ذلك، وما كان أجملها.
 -ثم كانت رحلتى- أنا وسهير إلى ألمانيا الديموقراطية، حيث ذهبنا للفحص الطبى والعلاج فى مستشفياتها العظيمة، وأمضينا فيها أيامناً طيبة، كان من أجمل ما شاهدناه فيها، ضاحية بوتسدام التاريخية الشهيرة، وقصر سان سوسى الأسطورى.
 -وكانت رحلاتى إلى دمشق، وعمان، ورحلاتى التكررة إلى بيروت ولبنان، وهى الرحلات التى استدعاها نشاطى فى حركة التضامن الأفريقى الآسيوى، واجتماعات لجان التضامن العربى، والتى استدعى إحدها، التى ذهبت إليها مع الصديق سعد مكاوى، بدعوه من الأخ العزيز محمد على ماهر، الذى كان يقيم وقتها فى منطقة الجبل ويعمل فى مجلة السفير العربى، حيث قضينا معه أياماً جميلة حظينا خلالها بضيافتة الكريمة، وسعدنا بلقاء أصدقائه الدوروز الطيبين، خليل رافع وأسرتة الكريمة.
 كذلك كانت رحلاتى المتكررة إلى قبرص، وليبيا، وتونس، والجزائر، وكانت معظمها مرتبطة بنشاط منظمة التضامن، أو باجتماعات لجان التضامن العربية، كانت رحلات جميلة شائقة، تركت فى نفس آثاراً طيبة، كما أكسبتنى العديد من الأصدقاء والرفاق الأعزاء.
  -وكانت رحلاتى إلى الهند، ثم إلى منغوليا، ثم إلى كوريا الشمالية، وكلها كانت رحلات عمل فى إطالر نشاط حركة التضامن، الأولى كانت للهند للمشاركة فى مؤتمر المنظمة العام، والذى صدر فيه قرار المؤتمر بتعيين الدكتور مراد غالب رئيساً للمنظمة، بعد رحيل الشرقاوى، وكانت لى فيها ذكريات طيبة، كان أهمها الزيارة التى قام بها اعضاء المؤتمر إلى قصر " تاج محل" الشهير، والذى يعتبر من عجائب الدنيا، وآيه من آيات الفن المعمارى، ورمزاً من رموز الحب والوفاء فى تاريخ الإنسانية.
  والثانية كانت لمنغوليا، الواقعة فى سقف آسيا، بين روسيا "سيبيريا"، وبين الصين، والتبت، والهند، حيث حضرنا اجتماعاً هاماً للتضامن الأفرو آسيوى أنا والراحل محمد عودة، الذى سعدت بصحبتة خلال هذه الرحلة العجيبة. وأشكر الله على أنه نجانا من شر الذئاب الشرسة التى كانت تسرح فى شوارع عاصمتها "أولان باتور".
 والثالثة كانت لكوريا الشمالية، التى سافرنا إليها- انا والأخ يوسف العقيد، عبر روسيا، لحضور مؤتمر هام من مؤتمرات التضامن، وكانت الأيام التى قضيناها هناك أياماً جميلة، لولا الهواجس التى كانت تنتاب العقيد من نوعية الطعام الذى كان يقدم إلينا هناك، لاعتقادة الجازم بأنه كان يحتوى على لحوم الكلاب والقطط.
  -وكانت رحلتى إلى تشيكوسلوفاكيا، وإقامتى بها لمدة أربعة شهور، حيث عملت محرراً ومترجماً فى مجلة "قضايا السلم الاشتراكية"، وكانت فترة حياة غريبة وشائقة، نعمت فيها هناك بصحبة الأخ حليم طوسون وحرمة دولت، والأخ زين سليط، وحرمة عليه، الذين كانوا يقيمون ويعملون فى براغ ذلك الحين.
 -وكانت آخر رحلاتى الخارجية،رحلتان ممتاليتان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ذهبت إليهما مع زوجتى سهير، وأبنتى منى، وحفيدتى دينا، بدعوة من ولدى الدكتور يوسف، بعد أن سافر وأقام فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الرحلة الأولى استكشافاً وتعرفاً على ذلك العالم الجديد، المتميز، أو الدنيا الجديدة، بكل ما فيها من غرائب وعجائب، ناتجة عن التقدم العلمى والصناعى الهائل الذى تقوم علية الحياة هناك. ويكفى أن أنوه هنا بشبكة الطرق البرية والبحرية والجوية المهولة، التى تربط بين أرجاء هذه القارة الهائلة. وكانت مدينة نيويورك، وحى مانهاتن، بروعتهما الأسطورية، هى أول ما خلب لبى فى تلك الزيارة.
 عندما شاهدت مانهاتن- نيويورك، فى أول زيارتنا لها، لم أملك أن أستولى على العجب والتعجب، لهذه الروعة وهذه القدرة البشرية، التى أقامت هذا العالم المكون من مئات من ناطحات السحاب الأسطورية، التى أذهلتنى مرآها، والتى أعادت إلى ذهنى تلك الصورة التى أملاها الخيال الشعرى، عن المدينة الأسطورية، فكتبت عنها فى قصيدتى "القافلة"، من وحى الخيال ليس إلا، والتى جاء فيها:
 لاحت على ضوء الغروب .. وفى مدى السهل الفسيح..
قمم الهياكل.. والمعابد.. والحدائق.. والصروح
فى مشهد تهفو لروعته المشاعر والعيون
لم تروه قصص القرون.. ولا رآه الألوان!
يا إخواتى.. قد آذن الليل الطويل بانتهاء..
فليبك من يشاء .. وليصل من يشاء.
...
يا إخواتى.. غداً سندخل المدينة العصية..
ونطرح الضنى.. ونخلع الملابس الزرية..
ونستريح فى الظلال من مهالك السفر..
ونلبس الديباج والعمائم المذهبة..
وننشد العزاء فى مجالس الشراب والسمر!
...
لكننى أسألكم بالله أيها الصحاب..
منذا الذى سيعبر الأسوار والأبواب!.
ومن سيطرق الساحات.. والحانات.. والأسواق!
ومن سيدخل الحدائق المعلقة!.
...
هل نحن.. أم قوم سوانا أخرون
تسربوا داخلنا على مدى الشتات
لم يأخذوا منا سوى بقايا الشكل والسمات..
قوم تشكلت نفوسهم من قسوة الطريق..
وأترعت بالحزن.. والغناء.. والملل..
فهل سيرجع الزمان.. أم هل يرجع الأحباب..
وهل سيرجع الشباب.. والمراح.. والأمل؟
...

وأخيراً، وبعد طول السفر والارتحال إلى بلاد الله لخلق الله، وحين بلغت الثمانين من عمرى، وعند صدور ديوانى الكامل- مختارات من شعر محمود توفيق، وعلى غير توقع ولا انتظار، فوجئت بدعوة كريمة من المركز الثقافى الروسى بالقاهرة، لحضور حفل تكريم لى فى تلك المناسبة يوم 2006/6/20 -أى فى عيد ميلادى. وقد أقيم الحفل فى قاعة الاحتفالات بالمركز، وكان حفلاً حافلاً حاشداً، حضر فيه، إلى جانب أسرتى والعديد من الأهل والأصدقاء، كثير من الشعراءوالكتاب والأدباء، وأدارته لجنة موقرة يرأسها الأستاذ الدكتور عبدالمنعم تليمة، كبير أساتذة الأدب والنقد بالجامعات المصرية، وشارك فيها الدكتور حسن فتح الباب، الشاعر والناقد الكبير، والأستاذ ممدوح قناوى، الشاعر والأديب والقانونى الكبير، ورئيس حزب الدستور الحر. وفى نهاية الحفل فوجئت بالدكتور نيكولاى ياخونتوف، رئيس المركز الثقافى الروسى، وبالأستاذ شريف جاد، مدير المركز، وهما يقومان، نيابة عن وزارة الخارجية الروسية، بتقليدى وسام الصداقة لجمهورية روسيا الاتحادية، وهو من أرفع الأوسمة فى روسيا، منذ أيام الاتحاد السوفيتى. وسررت من اختيارهم لوسام "الصداقة" بالذات لكى يهدوه إلى،إذ شعرت بأن ذلك يرمز إلى أن حياتى لم تذهب هدراً ولا هباء منثوراً، وأنه- رغم كل شئ فأنه مازال لى فى هذه الدنيا - أصدقاء أوفياء، يبادلوننى مشاعر الصداقة والإخاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق