ذكريات شاعر مناضل: فبراير 2014

30- لقاء فى بغداد


   اتصل بى الرفيق مهدى الحافظ، وجاء لمقابلتى بمنزلى، ثم أخبرنى بأن هناك مؤتمراً سيعقد ببغدا للتضامن مع حركة المقاومة الفلسطينية، بعد أن قامت القوات السورية التى دخلت إلى لبنان بالاعتداء عليها وإلحاق خسائر فادحة بها فى منطقة من لبنان تسمى "تل الزعتر"، وقد دعت القيادة القومية بحزب البعث العراقى إلى هذا المؤتمر، لإعلان الإدانة لهذا العدوان، والتضامن مع حركة المقاومة الفلسطينية، وأبلغنى الدكتور مهدى. أن عدداً كبيراً من الشخصيات المصرية البارزة سوف يدعون لحضور هذا الاجتماع، وأنه قد أمكنه بناء على رغبة الحزب الشيوعى العراقى، وبفته وزيراً فى الحكومة العراقية، ممثلاً - هو وزميله الرفيق عامر عبدالله - للحزب الشيوعى العراقى المشارك فى الجبهة الوطنية التقدمية - أن يطلبا إدراج أسمى، واسمى الزميلين زكى مراد، ونبيل الهلالى، ضمن قائمة المدعوين المصريين لحضور ذلك المؤتمر، بنية عقد لقاءات بين ثلاثتنا، بوساطة من الحزب الشيوعى العراقى، على هامش المؤتمر، بأمل التوصل إلى إزالة الخلاف القائم بيننا، وإعادة الوحدة إلى صفوف حزبنا. وكان قد أوضح للرفاق فى قيادة الحزب العراقى، هذا الأمر الخطير، ودعاهم إلى المبادرة إلى السعى لحل الخلاف.
  بعد ذلك، تلقيت من السفارة العراقية، مظروفاً يحمل بطاقة دعوة لحضور المؤتمر المزمع عقده فى بغداد بعد أيام قليلة، ومعها تذكرة السفر والعودة إلى بغداد ومنها، على الطائرة العراقية، بتاريخ اليوم السابق لعقد المؤتمر.
 توجهت إلى مطار القاهرة فى الموعد المحدد للسفر إلى بغداد، وكان ذهابى إلى المطار مبكراً، ودخلت، ثم جلست فى قاعة الانتظار بالمطار. بعد قليل، وجدت الزميلين زكى مراد، ونبيل الهلالى يدخلان معاً إلى قاعة الانتظار، وكان الطبيعى وقد رأيانى جالساً - أن يجلسا إلى جوارى، ولكنهما سارا فى طريقهما إلى مكان بعيد فى القاعة، وجلسا هناك سوياً، فتعجبت أن يصل الأمر إلى هذا الحد بيننا.
 ثم تقاطر على القاعة باقى المدعوين إلى المؤتمر من الشخصيات المصرية، زرافات ووحدانا، وحيانى الكثيرون منهم، وجلسوا إلى جوارى، وبدأت الأحاديث المعتادة تدور بيننا، إلى أن أعلن عن التوجه لركوب الطائرة، فقمنا.
 ...
 استقبلنا فى مطار بغداد بالترحاب العراقى المعروف، ونقلنا إلى مقار إقامتنا، أنا فى فندق بغداد، والرفيقان زكى ونبيل، فى فندق آخر، هو فندق المنصور.
 فى المساء، تلقيت دعوة إلى حفل عشاء أقامة الصديق طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة العراقى، فى مقر إقامته فى بغداد. وكنت أعرف طارق، وكنا قد التقينا مراراً من قبل.
 حضر الحفل كل من زكى مراد، ونبيل الهلالى، كما حضره أيضاً عدد من المصريين، المدعويين إلى المؤتمر، كان منهم الزميل وائل، أحمد حمروش، زميلنا فى الحزب، ومن مجموعتى، وكانوا كلهم قد تلقوا الدعوة للحضور، بصفاتهم الشخصية.
 جلس المدعوون، قبل العشاء، يتحادثون وهم يحتسون بعض الكئوس التى قدمت إليهم، وكانت جلستى فى مكان، بينما جلس زكى ونبيل معاً، فى مكان أبعد.
 بعد أن استتب الحديث، فوجئت بمشادة تحدث بين الزميل وائل، حمروش، والسيدين كمال رفعت ولطفى واكد، وكانا من الناصريين الذين ضما إلى الهية القيادية لمنبر التجمع. المشادة نشبت فجأة، وبلا مقدمات، فوجئت فيها بالسيد لطفى واكد وهو يوجه عبارات جارحة إلى حمروش، ويقول له:
 -انت لا تمثل أحداً هنا، وليس هنا فى هذه الجلسة أى فرد يقف معاك.
 أحسست بأن هذه المشادة جاءت امتداداً لشئ سابق عليها، وشعرت بان فيها ما يمسنى أنا أيضاً، فقد كان وائل - حمروش  واحداً من مجموعتى، ووجدتنى أرفع يدى وأوجه حديثى إلى لطفى واكد، قائلاً:
  -لا يا أستاذ لطفى، أنا أقف معه.
 وفوجئت بزكى ونبيل يهبان واقفين فى غضب ويصيحان موجهين بعض عبارات التأنيب لحمروش. أما لطفى واكد، وزميله كمال رفعت، فلم يعقبا على كلامى بأى كلمة، والتزما الصمت التام.
 ومرت هذه الحادثة بعد ذلك، ولكنها كانت قد لفتت الأنظار، وخاصة نظر طارق عزيز، الذى مصمص شفتيه أسفاً على ما حدث. ثم دعانا إلى مائدة العشاء.
 ...
 انعقدت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وفى نهايتها طلب منى الرفيق مهدى الحافظ أن أخرج معه، وأن نتوجه سوياً إلى مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعى العراقى، للقاء الرفيق عزيز محمد، السكرتير العام للحزب، وكنت أعرفه من قبل، والتقيته اكثر من مرة، وكانت بيننا علاقة ودية.
 قابلنى الرفيق عزيز، ومعنا الرفيق مهدى، بترحاب ومودة، ثم دعانى للجلوس لتناول الغداء معه، وطلب من مكتبه إحضار الغداء. أكلنا كباباً ودجاجاً مشوياً على مائدة الاجتماعات الملحقة بغرفة مكتبه، ثم جلسنا لنشرب أكواب الشاى - على الطريقة العراقية. ثم بدأ الرفيق عزيز يتحدث حديثاً تمهيدياً يهدف منه إلى تهدئتى، تمهيداً للحديث عن الأزمة القائمة فى حزبنا، وعن امله فى الاستجابة لمساعيه هو ورفاقه فى الإصلاح.
 لاحظت ان الرفيق يتناول الموقف بطريقة سطحية، يغلب عليها الأسلوب العاطفى. استأذنت منه الكلام، ثم تكلمت. شكرته جزيل الشكر على اهتمامه ومبادرته هو ورفاقه إلى هذا المسعى للوقوف إلى جانبنا فى هذه المحنة التى يتعرض لها حزبنا، وأكدت له أن هذا هو ما كنت أنتظره منهم، ثم قلت له بشئ من الصراحة، إننى أرجو ألا يتناول الموقف بهذه الخفة، وبهذا الأسلوب العاطفى، فالأمر ليس أمر إصلاح بين زوجين متخاصمين، وإنما هو أمر أزمة عميقة داخل حزب شيوعى فى مستهل حياته الحزبية.
  وشرحت له رأيى فى هذه الأزمة، وفى أسبابها. قلت له إن لها أسبابها العميقة فى بنيان الكيان الحزبى، وهى وجود فراغ فى الكيان  القيادى للحزب، إذ أن المسئولية القيادية الأساسية، وهى المسئولية السياسية، كانت منذ تحقق الوحدة بين المجموعات الثلاثة، وبناء الحزب، ومازلت حتى الآن شاغرة.
 كنا قد اتفقنا على تكوين الهئيات القيادية المشتركة، المكتب السياسى، واللجنة المركزية، وقمنا بتوزيع المسئوليات فيهما، على النحو المتعارف عليه فى الأحزاب الشيوعية، ولكننا تركنا المسئولية السياسية شاغرة، تجنباً للحساسيات الحلقية، وقررنا - كحل لهذه المسالة - إسناد المسئولية السياسية إلى لجنة ثلاثية، تشكلت من ممثلين لكل من التنظيمات الثلاثة المتحدة، فكانت هى اللجنة المشكلة من كل منى، هاشم، ومن كل من الرفاق، ناشد وأبو زيد. وكنا نفترض ونأمل، أنه، مع مضى وقت معقول، والتقدم فى بناء الثقة، سوف تجد هذه المشكلة حلها السليم، فى إسناد المسئولية السياسية إلى رفيق واحد، ومن ثم فى سد الفراغ الناجم عن شيوع هذه المسئولية. ولكن الأمور لم تسر على النحو المرجو، بل بدأ هذا الوضع الشاذ يذكى الحساسيات المكتومة بيننا نحن الثلاثة. وتحول الأمر، رغم المظاهر إلى صراع مكتوم على الزعامة، كان هو بؤرة الأزمة الراهنة، والقنبلة الموقوتة التى تهدد بالانفجار، وتمزيق الحزب.
 وقلت، إننى بدأت أصارح نفسى، وأصارح الزميلين، بهذا التفسير للأمر، وأدعو إلى إنهاء هذا الوضع المعلق والخطير، وذلك باتخاذ موقف حاسم، وهو اختيار رفيق واحد للمسئولية السياسية، كسبيل لتحقيق وحدة الفكر، والإدارة، والعمل، داخل الحزب، على النحو المتبع فى سائر الأحزاب الشيوعية. وقلت، إننى أعرف أن هذا الرأى سوف يساء تأويله، بالقول بأننى أريد طامع فيها، وأن المسأله هى الطمع فى الرئاسة أو الزعامة. لذلك، ومع اقتناعى التام بأن هذا هو الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة الراهنة، ولتحقيق وحدة الحزب، فإننى أخلع نفسى من الترشيح لهذه المسئولية، وأرشح لها الرفيق أبو زيد، لأسباب كثيرة تجعله أهلاً لها. أكثر من ذلك، فإذا لم يوافق أبو زيد على هذا الترشيح، فاننى أعلن قبولى على اختيار ناشد لهذه المسئولية، والأمر لا يخرج عن هذاالحل، أو ذاك، وهذا وحده هو الكفيل بتجاوز الأزمة الراهنة، وتحقيق وحدة الحزب. وأؤكد أنه بدون تحقيق هذا الحل، فسوف لا تحل الأزمة، مهما أغرقنا فى التفاصيل أو المهاترات.
 أبدى لى الرفيق عزيز تفهمه لوجهة نظرى، وطلب من الرفيق مهدى الإعداد لاجتماع مشترك، بينى وبين الزميلين ناشد وأبو زيد، فى حضور عدد أكبر من الزملاء من قيادة الحزب العراقى، وبعد قليل، انتقلنا، أنا والرفيق عزيز محمد، إلى قاعة مجاورة، حيث حضر كل من ناشد وأبو زيد، كما حضر عدد من قادة الحزب العراقى، كان منهم مهدى الحافظ، وعامر عبدالله، وكريم أحمد، ورفيق آخر.
  وبدأ الاجتماع، فتكلمنا فيه نحن الثلاثة، بدأه زكى بتقديم تفسيره للأزمة، وهو أنه لا توجد أسباب حقيقية لها، والسبب الوحيد هو عند الرفيق هاشم - أنا - وهو أننى أعانى من أزمة نفسية وعصبية بسبب ظروف عملى البورجوازى، ولكن الحزب لا يعانى من أية أزمة حقيقية. وتكلم أبو زيد فقال كلاماً مقارباً لما قاله ناشد، ورددت أنا عليهما قائلاً، إنه لو كان الأمر كذلك لكان الحل بسيطاً، وهو أن يتفضل الإخوان زكى ونبيل، بعرضى على طبيب للأمراض النفسية والعصبية لعلاجى، أو حتى لإدخالى إحدى المستشفيات المتحصة فى علاج مل هذه الحالة.
 ثم أخذت أشرح وجهة نظرى، فى أن الفرق بينى وبين الزميلين، راجع إلى الفرق بين موقفى وموقفهما. فكل منهما يعمل محامياً مشتغلاً بالمحاماة، وله مكتب يزاول منه عمله، ومعظم وقته وجهده ينصرف إلى هذا العمل سواء فى مكتبه أو فى المحاكم، أما العمل الحزبى فهو بالنسبة له مجرد هواية جانبيه لا يوليها إلا القدر الفائض من وقته وجهده. ولكن الأمر بالنسبة لى ليس كذلك، فالحزب، والعمل الحزبى، ومستقبل الحزب، هو كل حياتى، وأنا متفرغ له تماماً سواء بإرادتى أو بالرغم منى. ولذلك فأنا أرى العيوب الماثلة فى البناء الحزبى الراهن بمنظار مكبر - وأرى ما ينتج عن الخلل فى التكوين القيادى من ضعف وانحلال على وضع الحزب كله، ومن خطر جسيم على مستقبله. الرفيقان زكى ونبيل راضيان عن الوضع الراهن فى الحزب، وعن مستقبله، لأنهما فى الأساس، راضيان عن وضعهما الشخصى، ومن ثم فهما راضيان عن الوضع القائم فى الحزب. أنا أريد التغيير فى البناء القائم للقيادة الحزبية، ومن ثم فى قوة الحزب وقدراته على مواجهة مهمامة ومواجهة الأخطار الجسيمة التى تهدده وتهدد البلاد. أماهما فيريدان بقاء الحال على ما هو عليه. وهذا هو الفرق، وهذا هو السبب الحقيقى للأزمة. هما يقولان: بقاء الوضع الراهن بأى ثمن، وأنا أقول: القيام بالتغيير الجذرى المطلوب، أو الكارثة.
   كان بادياً، لى على الأقل، أن الرفاق العراقيين، يتفهمون وجهة نظرى ويميلون إليها، ولكنهم كانوا محرجين أمام تشبث الرفيقين الآخرين بموقفهما، وكانوا يريدون أن يكونوا واقعيين، وأن يتركوا فرصة لعنصر الوقت، لكى يفعل فعله.
 وانتهى الاجتماع بأمل غامض فى أن يفعل الزمن فعله، وأن يقوم كل طرف بمراجعة نفسه.
 ...
 كنت أشعر بهم وإحباطهم ويأس شديد، وبأن القطار السريع سوف يسقط فى الهاوية لا محالة. ولم يكن يخامرنى شك فى ذلك، ولكنى قررت أن أتذرع بشئ من الصبر.
 عدنا إلى الوضع الراهن، الإخوان ناشد وأبو زيد، منهمكان فى عملهما فى المحاماة، وراضيان عن نفسيهما، والزميل إبراهيم يمارس المسئولية التنظيمية بأسلوبه الروتينى المعروف، والرفيق معاوية، يصول ويجول فى بناء التجمع على هواه، محتمياً بعباءة الأخ خالد محى الدين من ناحية، وبحماية إخوة التكتل المسيطر على الحزب من ناحية أخرى، كما أنه يصول ويجول فى مجال العلاقات الخارجية منفرداً، كما أنه يصول ويجول فى مجال العلاقات الخارجية منفرداً، ويدافع عن ذلك بنظرية عجيبة يرددها، هى أن علاقة المسئول عن العلاقات الخارجية تشبه تماماً علاقة الشخص بعشيقته، لا يجوز أن يتدخل فيها أى إنسان آخر. أما الرفيق شاكر، ميشيل كامل، فكان يصول ويجول هو الآخر، فى مجال العلاقات الخارجية أيضاً، فيقول ويكتب ويفعل ما يشاء، من مقره فى بيروت، أو من مقره بعد ذلك فى باريس، غير آبه بأى سلطة حزبية، تحت عباءة التكتل الذى ينتمى إليه، والذى يسيطر على الحزب. والثعالب الصغيرة هنا وهناك، تفعل ما تشاء، فى جحورها داخل الحزب، فى حماية ذلك التكتل، الذى يحمى التيب والانحلال، بكل ورة وأشكاله.

31- الهروب

  عدنا إلى القاهرة، وعادت الأوضاع إلى سابق عهدها، فلم يكن أمامنا شئ آخر. وبدأنا نلتقى من جديد، ولكن العلاقات كان يغلب عليها الفتور.
 بعد أسبوعين من عودتنا، حضر الرفيق عامر عبدالله من بغداد، وطلب أن يلتقى بنا، وتقرر أن نلتقى به على دعوة للعشاء فى مطعم للأسماك هو مطعم سى هورس، الواقع على النيل فى منطقة المعادى، وحضر اللقاء، أنا والرفيقان ناشد وأبو زيد، والرفاق سالم من مجموعتى، وإبراهيم من مجموعة ناشد، وعصام من مجموعة أبو زيد. وكان الجو لطيفاً، ومنظر النيل ساحراً، والعشاء شهياً، والأحاديث ودية هادئة. واستراح عامر إلى الوضع، واعتبره بشيراً بعودة الوئام إلى صفوف الجزب، ولكنه حين مال على ونحن فى الطريق إلى حمام المطعم سائلاً: كيف الحال؟ أجبته بإيجاز قائلاً: سبحان علام الغيوب.
 وسافر عامر، واستمرت الأحوال على ما كانت عليه. وكان الوضع العام فى البلاد يزداد تدهوراً. فالسادات يزداد تهجماً وعداء للاتحاد السوفييتى، ولسوريا، وارتماء فى أحضان أمريكا، وأعوانها فى المنطقة، بحجة أن أمريكا تملك 99% من أوراق الحل لمشكلة الشرق الأوسط، وأن مصر، والعرب، والاتحاد السوفييتى، والعالم كله، لا يملكون شيئاً من تلك الأوراق. وكيسنجر- وزير الخارجية الأمريكى- الصهيونى - يروح ويجئ - وهو يبدو مسيطراً تماما على مجريات السياسة الخارجية المصرية. وفى الداخل، تزداد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تدهوراً، وتغوص البلاد فى مستنقع الانفتاح الاقتصادى، أكثر فأكثر، وتمسك الفاقة وسوء الأحوال، بخناق الأغلبية الساحقة من المصريين. كل هذا بينما يقف الحزب الشيوعى، وغيره من التنظيمات الحزبية والجماهيرية، موقف العجز عن فعل شئ يوقف حالة التدهور المتواصل.
 وفى يوم 17 يناير سنة 1977، طالعتنا الصحف بأخبار سارة ومبشرة، عن أن الحكومة بصدد إصدار مجموعة من القرارات الاقتادية، لرفع المعاناة عن الجماهير، وتحسين أوضاعها المعيشية. وتفاءل الناس خيراً، وباتاوا ليلتهم وهم ينتظرون الفرج فى الصباح.
 غير أن صباح يوم 18 يناير جاءهم بالحقيقة الصادمة، إذ صدرت الحف وهى تحمل فى صدر صفحاتها قوائم بعشرات، أو مئات، من السلع التى تقرر رفع أسعارها على نحو صادم. وما أن طلع النهار، حتى هبت المظاهرات الصاخبة الغاضبة فى كل الأنحاء، وكل الأحياء، وكل المدن، وخاصة فى المناطق العمالية، والضواحى الفقيرة.
 ومر ذلك اليوم، صباحه ومساءه، والظاهرات تزداد قوة وعنفاً، والمصادمات تتزايد بين المتظاهرين، وبين رجال الشرطة الذين حاولوا ايقافها وتفريقها، دون جدوى. ونقلت الأخبار والشائعات أخباراً مروعة عن عدد القتلى والمابين من المتظاهرين ورجال الأمن، وعن حوادث التخريب والسلب والنهب. بما لم يكن له مثيل من قبل منذ أحداث 26 يناير سنة 1952، المسمى بحريق القاهرة.
 ومنذ البصاح الباكر من اليوم التالى 19 يناير 1977، استأنفت الاضطرابات اندلاعها، وعجزت قوات الأمن عن التصدى لها أو إيقافها، وتزايدت أعداد القتلى والمصابين، وأحداث التدمير والتخريب والسلب والنهب اشتغالاً. ولم تجد السلطات بدا من الأمر بنزول قوات الجيش إلى الشوارع لقمع المظاهرات، بعد ان عجزت قوات الأمن عن ذلك. وكان ذروة التدهور فى خطورة الأوضاع.
 فى اليوم الأول 18 يناير، صباحاً، كنت بالصدفة، فى زيارة لعبد الرحمن الشرقاوى، وكنت اجلس معه بمكتبه بدار روز اليوسف، ومعنا عدد من العاملين فى الدار: صلاح حافظ، أحمد حمروش، حسن فؤاد، وآخرون، حين هاجم المتظاهرون الدار، محاولين إشغال النار فى المبنى كله، بما فيه المطابع والمخازن والمكاتب. والتف المحررون والعمال حول المبنى، واستطاعوا - بعد جهد جهيد أن يدفعوا المتظاهرين بعيداً عنه. واشتركنا - أنا والشرقاوى وزملاؤه - فى إقناع الجماهير بعدم التعدى على الدار، مؤكدين لهم أن روز اليوسف هى أول صحيفة تدافع عن حقوق العاملة والفقيرة.
 فى اليوم الثانى، وبعد الظهر، كنت بالمنزل أتابع الأخبار وتطورات الموقف، حين حضر لزيارتى كل من ناشد، وأبو زيد. وبعد أن جلسوا ودخلنا فى الحديث، واستعرضنا تطورات الأوضاع الجارية، ومدى خطورتها، انتقلنا إلى محاولة تقييم تلك الأحداث، وإلى التوقعات المنتظرة لتطورات الموقف.
 فوجئت بالرفيق ناشد، وهو ينقل إلينا أنباء عن مدى الذعر الذى يسيطر على الحكومة، وعن اتصالات تمت بينها وبين بعض العناصر اليسارية والعمالية، للاستنجاد بها على تهدئة الأوضاع. وأعرب عن تفاؤله بنجاح تلك الاتصالات، وقرب استدعائنا للاشتراك فى السلطة للقيام بهذا الدور.
  ورغم علمى، بحالة التفاؤل المفرط التى تنتاب الرفيق ناشد إزاء مثل هذه الأحداث، إلا أننى اندهشت جداً لهذه الدرجة من التفاؤل الذى لا أساس له من الواقع. وجعلت أسأله عن مصدر تلك المعلومات، فصرح لنا بأن مصدرها، هو حزب التجمع.
 وجدتنى أنبرى للرد على هذه الأقوال، وللتعبير عن وجهة نظر معارضة لها، وقلت إننى أتوقع أن تتمادى الحكومة فى موقفها، وأن تحاول استغلال تلك الاضطرابات فى توجيه ضربة شديدة لليسار، وللشيوعيين، ولنا بصفة خاصة.
 وتدخل أبو زيد فى الحديث، فقال إن رأيه أن كلا الأمرين واردان، وارد أت تلجأ الحكومة إلينا للمشاركة فى مواجهة الأزمة، ووارد أيضاً أن تستغل الحكومة الأحداث فى توجيه ضربة أمنية إلينا.
 وهكذا بقى الأمر متأرجحا بين، وبين. ووجدتنى أنقل الحيث إلى نقطة أخرى، هى التساؤل، عما سوف يفعله كل منا فى مواجهة الخطر المترتب على التطورات المحتملة. هل نبقى، أم نهرب من القبض علينا؟ وبادر أبو زيد بالقول: إنه لا يفكر فى الهرب، فوضعه القانونى والسياسى يمنعه من مجرد التفكير فى الهرب، أنه سيواجه الموقف مواجهة فانونية.
 أما الرفيق ناشد، فصرح بأنه قد أعد عدته للهرب، رغم ثقته فى أنه لن يحدث ما يستدعى الهرب، ولدية مكان آمن معد لهربه، وترتيبات كافية لتأمين هروبه.
 وأما أنا فقلت إننى متوقع للقبض علينا، وإننى شخصياً أرغب فى الهرب. ولكن ليس هناك أى ترتيب لهربى، فالأمر إذا يتوقف على الظروف. وخرج الزميلان منصرفين، قبل أن تحل ساعة منع التجول التى كان قد أعلن عنها.
 فى هذا التوقيت، تلقيت مكالمة تليفونية من الأخ عبد الرحمن الشرقاوى، يطلب رأيى فيها، أو اقتراحى، بالكيفية التى يتعين على الحكومة أن تلجأ إليها لمعالجة الموقف، وأحسست من لهجته، أنه مطلوب منه - حكومياً - استطلاع الرأى لدى بعض أصدقائه - وربما كنت أنا أحدهم - فقلت له مؤكداً، يجب على الحكومة أن تبادر بإعلان عدولها عن قرارات رفع الأسعار. سمع هذا الرأى، وأبدى إقراره له، وشكرنى، ثم أنهى المكالمة. وبقيت أنا فى المنزل، أنتظر تطورات الأوضاع، ولم يكن فى ذهنى أى شئ حول ما يجب على عمله.
 بقيت فى المنزل، أتابع أخبار الموقف فى التليفزيون، أو فى الإذاعات الأجنبية، خاصة إذاعة لندن العربية، أو إذاعة مونت كارلو. وكانت فكرة الهروب تراودنى ولكننى كنت أدرك صعوبتها، إذ أن الخروج أصلاً من العماره التى أقطن فيها، والسير فى الشارع هما من رابع المستحلات، ففى مواجهة عمارتنا كان هناك سكن لطلبة الجامعة المغتربين، عليه حراسة مشددة، ويوجد أمام بابه كشك به رجال أمن، لاشك أنهم على صلة بالمباحث. كما أن الشارع الذى أقيم به، والشوارع المتصلة به، كانت تحت رقابة المباحث بواسطة المرشدين المنبثين فيها من المكوجية، وأصحاب أكشاك السجاير والمرطبات.. إلخ، وكنت أعرف يقينا أنهم مكلفون بمتابعة تحركاتى والإبلاغ عنها.
 جلست مع أفراد عائلتى، زوجتى وأولادى الثلاثة نتداول فى الموقف، وكانوا جميعاً متفهمين لتقديرى الموقف، ماعدا منى، ابنتى الصغرى، التى كان يبدو عليها الجزع لاحتمال القبض على، وهو ما شاهدته قبل ذلك وتخشى حدوثه.
 قلت لهم إن الخروج من باب العمارة، والسير فى الشارع، ثم فى الشوارع عموماً أصبح مستحيلاً بعد إعلان حظر التجول، وأنه للهروب إذن فلابد من الهروبمن العمارة، لا إلى أسفل، وإنما إلى أعلى. وشرحت لهم هذا التصور، فى أنه للهروب، لابد من الصعود إلى سطح عمارتنا، ثم القفز منه إلى سطح العمارة المجاورة، ثم البقاء فيها لدى أحد سكانها حتى يتيسر بعد ذلك الخروج منها. وكنا مازلنا نتداول فى ذلك حين رن جرس التليفون وردت عليه سهير زوجتى، وكان ذلك فى حوالى منتصف الليل. كان المتحدث هو محمود صديق شقيق زوجتى، وقد أبلغ سهير على عجل بأنه تلقى مكالمة من درية، لإبلاغى بعدم المبيت فى المنزل. وكانت درية هى زوجة كمال- اللواء بالشرطة، وابن خالة سهير، وفهمنا أنه هو الذى كلف درية بإبلاغنا بتلك الرسالة. ومعنى ذلك، أنه قد عرف، يقيناً أو تخميناً. باننى سوف أعتقل فى تلك الليلة، وأنه ينصحنى بالهروب. وكان كمال شخصاً رزيناً ومخلصاً، ومحباً لى ولعائلتى، وكان لرأيه وتقديرة أهمية كبيرة لدينا.
 ماكدنا نتلقى تلك المكالمة حتى عدت أراجع الموقف. وكنت أجلس مرتديداً بدلة الخروج كاملة، ومعى معطف ثقيل أضعه على مقعد بجوارى، إذ كنا فى يوم 20 يناير، والبرد على أشده.
 ثم سمعنا صوت سيارة تتوقف أمام باب العمارة، وصوت نزول أشخاص منها، ولاحظ أبنائى أن بعض حرس بيت الطلبة قد توجهوا إلى ركاب السيارة، وتبادلوا معهم بعض الكلمات، ثم بدأنا نسمع صوت دبيب أقدام صاعدة على سلم العمارة. ونظرت إلى وجه ابنتى منى، فراعنى اصفراره، وتعبير الفزع المرتسم عليه، ثم سمعتها تقول فى توسل: دول طالعين يا بابا، أهرب يا بابا .. اهرب.
 ما أن سمعت كلمات منى، حتى وجدت يدى تمتد إلى المعطف الموجود على مقعد بجوارى، ووجدتنى أختطفه، وأهرع إلى باب الشقة فأفتحه وأنسل منه إلى السلم، وأرد الباب خلفى دون صوت، ثم أصعد متسللاً على السلم. كانت شقتنا فى الدور الرابع، وفوقها دور خامس، ثم السطوح، حين بلغت السطوح، كانت قوة الشرطة قد توقفت أمام باب شقتنا وبدأت تطرقه بطرقاتها الغليظة المعروفة، وكنت أتابع هذه التحركات بسمعى وكأننى أراها بعينى.
كنت دخلت سطوح عمارتنا، وكان الظلام دامساً والبرد شديداً.
 ومع ذلك فقد استطعت أن أجد طريقى إلى الحائط الذى يفصل عمارتنا عن العمارة المجاورة. وكان الحائط الذى يفصل بين العمارتين متوسط الارتفاع، لبست معطفى، وتوجهت لأقفز إلى أعلى الحائط، ثم أقفز منه إلى سطح العمارة المجاورة. ثم وأنا أهم بالقفز خطر لى خاطر مزعج، فشببت على قدمى لأنظر وراء ذلك الحائط، وفعلت، فإذا لى أرى وراءه منوراً يفصل بين العمارتين، فتراجعت سريعاً، وتوجهت إلى موقع أخر، وشببت فوجدت أن هذا الموقع يتصل بسطح العمارة المجاورة. وكنت قد تجاوزت الخمسين من العمر، وفقدت الكثير من لياقتى البدنية، مع ذلك، فقد نجحت فى التسلق والقفز إلى السطح الآخر.
  كان الظلام شبه دامس، ولكننى استطعت على ضوء بعض الأشعة النافذة فيه، أن أرى أمامى معالم شقة صغيرة فوق السطوح، هى التى يقيم فيها بواب تلك العمارة وأسرته. ورأيتها مظلمة وسمعت داخلها شخير سكانها النائمين، ولبثت برهة أفكر فيها أفعل، إلى أن رأيت أمامى باباً موارباً لغرفة ملحقة بشقة البواب. فتوجهت إليها، ونظرت داخلها، فأدركت بصعوبة، أنها غرفة مطبخ ملحق بتلك الشقة. فدفعت بابها برفق، ودخلت، ثم رددت الباب خلفى برفق، ووقفت انتظر فى الظلام. وأثناء تحسسى لما حولى، وجدت عموداً من الحديد موضوعاً على منضدة. لسبب ما، فأمسكت به، وقررت أن أتخذه سلاحاً أحتمى به عند اللزوم. ثم بقيت ساكناً أدرس الموقف بسمعى وحده.
 مر الوقت، وقدرت أن رجال الشرطة الذين دخلوا إلى شقتى قد فرغوا من تفتيشها، بعد ذلك سمعت وقع أقدام صاعدة على سلم عمارتنا، ثم ماشية على السطوح، وبعض كلمات متبادلة، فقدرت أن رجال الشرطة قد صعدوا للنظر فى السطوح، باحتمال أن أكون قد صعدت إليه، ولكن وقع الأقدام قد اتجه إلى النزول.
 مكثت قرابة ساعة واقفاً فى مطبخ شقة البواب انتظر، ثم خبل إلى أنى أسمع صوت ابنى يوسف وهو يهمس بصوت خفيض: بابا..بابا.. وكدت أرد عليه، ولكنى آثرت ألا أفعل، مخافة ألا يكون هو. وحمدت الله على أنه قد أخذ طريقه نازلاً إلى شقتنا. وعلمت فيما بعد أنه كان هو بالفعل، وأنهكان يريد أن يبلغنى بأن رجال الشرطة قد انصرفوا بعد أن يئسوا من العثور على فى الشقة، وبعد أن قاموا بتفتيشها. وحمدت الله على أننى لم أكن مضطراً إلى ضرب ولدى بعمود الحديد، فى الظلام الدامس، ظناً منى أنه من رجال الشرطة.
 كنت انتظر وأنا أكاد أن أتجمد من البرد، لولا المعطف الثقيل الذى كنت ارتدية. وكنت أتابع مرور الوقت عن طريق دقات ساعة جامعة القاهرة، التى تقع على بعد بضعة كيلو مترات من موقعى، دقاتها كل ربع ساعة، ثم كل ساعة، إلى أن دقت الثالثة بعد منتصف الليل، فرأيت أنه لا داعى للانتظار أكثر من ذلك.
 تسللت خارجاً من المطبخ، إلى أن وصلت إلى الباب الموصل بين سطوح تلك العمارة، وبين سلمها. ومن حسن الحظ أنه لم يكن موصداً، بل مقفولاً بأكرة بسيطة، فتحتها ودخلت إلى السلم. ثم تحسست طريقى فى الظلام ونزلت دوراً واحدً، إلى أن وصلت إلى باب الشقة التى كنت قد قررت اللجوء إليها. ثم بدأت أنقر شراعة الباب نقراً خفيفاً وأنتظر، ثم أعود إلى النقر عليه مرة أخرى. تكرر ذلك إلى أن رأيت نور ردهة الشقة يضاء، وسمعت صوتاً رفيعاً يقول: مين..مين اللى بيخبط؟ فاجبت بصوت تعمدت أن يكون مسموعاً، ولكن دون ارتفاع:
  -مها..افتحى..أنا أونكل محمود.
 ووجدت حبيبتى مها، صديقة وزميلة ابنتى ليلى تفتح. فقلت لها:
 -معلهش يا مها، ممكن أبات عندكم الليلة؟
 أجابتنى الفتاة الشجاعة، وكأنها عرفت وتفهمت الموقف. ودخلت. ثم جاءت أختها الأصغر هالة، ثم أبوها الأستاذ محمد عطية - وكان جاراً طيباً من رجال التعليم، وقاموا كلهم بالترحيب بى، وأخلوا لى غرفة نوم، دخلت إليها، فخلعت معطفى وحذائى فقط، ثم أرتميت على السرير.

32- فى كنف الأصدقاء


مكثت فى ضيافة الرجل الكريم - الأستاذ محمد عطية، وابنتيه مها، وهالة أسبوعاً، إلى أن رفع حظر التجول، ومر على رفعه يومان آخران. واستغرقت هذه الأيام السبعة كلها فى التحضير لهروب طويل.
  أول ما فعلته، أن أقمت خط أتصال بريدى مع أسرتى، فقد وجهت مها إلى أن تحضر سبتاً صغيراً من أعواد الغاب، وأن تربطه بحبل طويل، وأن تدليه من نافذة صالة منزلهم إلى المنور، وأن تتدرب على تحريكة فى المنور حتى يصل إلى نافذة مطبخ شقتنا عبر المنور. وقامت مها بهذه المهمة بكل براعة، واستطاعت أن تلفت نظر ابنتى ليلى، التى قامت هى الأخرى بالإمساك بالسبت عند وصوله إلى نافذة مطبخنا، وفهمت الفتاتان المطلوب بذكاء تحسدان عليه.
 أول رسالة كانت إلى يوسف ابنى - الطالب فى كلية الطب وقتها - كلفته بالذهاب إلى بعض أقاربى، والبحث معهم فى إمكانية انتقالى للإقامة عندهم لبعض الوقت. وقد قام يوسف بهذه المأمورية، ولكنه عاد منها مستاء من هؤلاء الأقارب، الذين أبدوا نذالة وجبناً، وتملصوا من الموقف بأعذار مختلفة.
 عدت فأرسلت ليوسف أن يرتب لى طريقة للخروج الآمن من شارعنا، عن طريق بعض أصدقائة ومعارفنا، ممن لديهم سيارات، وذلك على نحو معين سوف يأتى ذكره لاحقاً.
 اتفقت مع الفتاه الشجاعة مها على تحضير بعض لوازم التخفى. قامت بشراء صبغة شعر سوداء، وقامت بصبغ سوالفى البيضاء، والتى كانت تعتبر من ملامحى المميزة فى ذلك الحين، وكانت حافظة نقودى تحتوى على بضعة جنيهات، أعطيتها بعضاً منها، وطلبت منها   أن تشترى لى جبة وقفطاناً مستعملين من سوق الكانتو فى ميدان العتبة، وأن تشترى طاقية صوف وشال عمامة، وعصا سلامية (الفلاحى)، ونظارة شمس سواداء، وقامت الفتاه البارعة بإحضار كل هذه الأسياء، وكانت كلها على النحو المطلوب.
 تم الاتفاق بين يوسف وأصدقائه على تجهيز سيارتين، يقود كل سيارة أحد الشبان، ومعه آخر يجلس إلى جواره، والانتظار فى حالة استعداد إلى حين حلول الموعد الذى سيتفق عليه.
 حلت ساعة الرحيل، وكانت عند حلول المساء فى اليوم المتفق عليه. كنت جاهزاً، أرتدى ملابس شيخ ريفى، بالجبة والقفطان والعمامة والتلفيحة الصوفية، وأضع على عينى النظارة السوداء وتحتها على إحدى عينى - قطعة كبيرة من القطن، للإيهام بأن هذا الشيخ له عين مريضة، وبيدى سبت من الغاب به بعض الملابس الأخرى، على عادى أهل الريف. من هذه اللحظة أصبح اسمى هو: الشيخ عبد الباقى، وهو الاسم الذى ظل يعرفنى ويخاطبنى به عدد من أصدقائى ومعارفى، بعد ذلك لمدة طويلة.
 نزلت على سلم عمارة آل عطية، فوجدت سيارة نصر بيضاء تنتظرنى أمام العمارة، يقودها شابان (أصبحا طبيبن فيما بعد) ، هما -محمد الأنصارى، وضياء الحمامى، نزلا وساعدانى فى الركوب، ثم قاد الأنصارى السيارة خارجاً من شارعنا المقفل، إلى الشارع العمومى، تحت أنظار العديدين، جزء منهم من رجال البوليس والمرشدين.
 سار الأنصار بالسيارة فى عدة شوارع متداخلة حتى اطمأن إلى عدم وجود رقابة من سيارات أخرى، إلى أن وصل إلى مستشفى الشبراويشى فى ميدان فينى بالدقى، وهناك وجدنا سيارة أخرى، فيات بيضاء أيضاً فى الانتظار، نزلت من السيارة الأولى، وركبت السيارة الثانية، وكان يقودها - الشاب هشام السعيد، الطالب بكلية التجارة، والذى أصبح زوج ابنتى منى بعد بضعة سنوات، وكان إلى جواره صديق له - هو عمرو الطنبولى. سارت بنا السيارة طويلاً. إلى الجيزة فطريق المعادى، وأنا أوجه الإرشادات إلى هشام - السائق - فيسير وفقاً لها.
 وصلت السيارة إلى المعادىوفيها، شمال فيمين، شمال فيمين، إلى أن وصلنا إلى العمارة التى أريدها، فتوقفت.
 نزلت من السيارة، ونزل هشام معى وهو يحمل لى السبت، دخلنا من باب العمارة، وصعدنا على السلم دوراً واحداً. توقفت أمام باب الشقة، وضغطت الجرس. بعد قليل خرج صديقى العزيز سعد، سعد مكاوى - الكاتب الكبير - ونظر وهو يستغرب لهذا الشيخ الريفى الذى يطرق بابه فى هذا الوقت من الليل، وظن لوهلة ان الشيخ قد ضل طريقة إلى شخص آخر، فبادره بالسؤال:
  -عايز مين يا مولانا؟
 فأجبته بهدؤ، عايزك انت يا أستاذ سعد، أنا الشيخ عبد الباقى. قريبك من البلد.
 وفهم سعد فوراً الموقف كله، فابتسم وهو يفسح لى الطريق قائلاً:
 -أهلاً وسهلاً.. اتفضل يا مولانا.. اتفضل.
 تناولت السبت من يد هشام، وصافحته مودعاً وأنا أقول له:
 -شكراً يا هشام..شكراً.. اتفضل انت، مع السلامة.
 انصرف هشام، ودخلت وراء سعد مكاوى إلى غرفة الجلوس التى كنت أعرفها جيداً فى منزله.
 لم تستمر دهشة سعد من الموقف طويلاً، فسرعان ما أدرك- بذكائه المعهود- الموقف تماماً، ولكن استغرقته التفاصيل فأخذ يتأملنى، منظرى، ملابسى، عمامتى، عصاى، نظارتى والقطن الطبى..إلخ- وكان الذى يتأملنى،ليس هو صديقى سعد مكاوى، وإنما الكاتب الروائى والقصاص، سعد مكاوى، وبدا عليه نوع من الإعجاب بما يرى.
 دخل سعد إلى داخل الشقة، ثم عاد ومعه زوجته بهيجة، وراءهما أبناهما-هالة، وهشام، ووقف الثلاثة ينظرون إلى باستغراب، وهو يقول لهم:
 -عمكم الشيخ عبد الباقى من بلدنا- الدلاتون- وجاى ضيف عندنا- فهمت بهيجة- وكانت سيدة ذكية- الموقف أيضاً، فقالت وهى تصافحنى مبتسمة:
 -أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً.
 ثم انصرفت هى وأبناها. وجلس سعد.
 قلت له:
 -ماعلهش يابو السعود، للضرورة أحكام، وأنا آسف على هذه المفاجأة، ولكنى  لن أطيل البقاء عندك، وفى خلال يوم أو اثنين على الأكثر، سأرحل عنك.
 قام سعد من مكانه، وأقبل على يحتضننى ويقبل رأسى، ووجهى، قائلاً:
 -لأ يا محمود، ماتقولش كده، أهلاً بيك، على الرحب والسعة.
مكثت فى ضيافة سعد وأسرته ثلاثة أيام، وأنا فى ملابس الشيخ عبد الباقى - أنا على أريكة فى غرفة جلوسه، التى كانت هى أيضاً غرفة مكتبه. تطل على لوحة زيتية معلقة على الجدار المواجه للأريكة، بها منظر طبيعى حزين لسماء خريفية مكفهرة بالغمام الداكن. وتحضر إلى زوجته المحترمة طعامى وشرابى لأتناولهما على المنضدة الصغيرة بحجرة الجلوس، حتى لا يلفت وجودى نظر أحد من الناس، الشغالة - بائع الجرائد -إلخ.
  أخبرت سعد، أننى أريد أن انتقل من منزله بالمعادى، إلى مكان آخر فى حلوان، مكان يعرفه سعد جيداً كما أعرفه أنا، وهو زاوية الصوفية الشاذلية، الخاص بوالد صديقنا الأستاذ محمد على ماهر، الكاتب الكبير، والذى طالما قضينا فيه أوقاتاً طيبة معاً، وأنى أرغب فى الذهاب إلى هناك وطلبت من سعد، أن يذهب إلى ماهر ويستأذنه فى ذلك.
 أقرنى سعد على هذا الإختيار، وفى اليوم التالى، ما أن حل المساء، حتى نزل سعد متوجهاً إلى حلوان وبقيت أنا فى انتظاره.
 بعد ساعتين، أو أكثر قليلاً، عاد سعد من حلوان. كان متهللاً وما أن التقط أنفاسه حتى بدأ يروى لى ما حدث. قال:
 -قابلت ماهر، وهو يهديك السلام، وشرحت له الموقف، ثم أخبرته أنك تسأله عما إذا كان فى استطاعتك أن تذهب للإقامة فى زاوية المرحوم والده، فأجابنى دون تردد:
 -طبعاً.طبعاً، ييجى على الرحب والسعة، وأنا أقتديه بنفس وبكل أولادى، وإن ما شاليتوش الأرض أشيله فى عينيا.
 ثم أخبرنى سعد، بأن محمد سيقوم غداً بإعداد المكان وتنظيفه، وسينتظرنا غداً مساء - أنا وانت - هناك، بعد صلاة العشاء.
 فى الليلة التالية، ما أن اقترب الموعد حتى نزلت أنا وسعد، بعد أن ودعت عائلته، وأنا فى هيئة الشيخ عبد الباقى بكامل أوصافة.
 وركبنا سيارة تاكسى إلى حلوان. نزلنا منها أمام محطة القطار، ثم ركبنا عربة حنطور إلى المكان المقصود. استقبلنا ماهر مرحباً ومهللاً بالشيخ عبد الباقى. وكانت الزاوية قد فرغت من زوارها من الإخوة الذين كانوا يصلون العشاء فيها، ودخلنا إلى الغرفة الداخلية التى سأقيم بها، وجلسنا، أنا، وماهر، وسعد. ثم بدأ ماهر ينخرط فى قراءة القرآن. قرأ كثيراً من سور وآيات الحفظ. وأطال فى تلك القراءة، حتى شعرت أنه يريد أن يحصننى ضد أخطار كثيرة يتوجس منها، وأخيراً استودعنى الله، وخرج هو وسعد، على أن أنام أنا بعد أن أغلق باب الشقة بالترباس.
 دخلت إلى الغرفة الداخلية، وكان الليل قارس البرودة، وكان السكون شاملاً وعميقاً حتى أننى كنت أسمع صوته. خلعت جبتى، وبقيت بالقطفان، وتدنرت بالبطانية، وقرأت آيه الكرسى، ثم أدركتنى رحمة الله فسقطت فى نوم عميق.
 صحوت فى وقت الضحى، وفتحت نافذة الغرفة، فوجدتنى أطل على منظر بهيج، حديقة خلفية زاهرة، بها عدة أشجار وشجيرات يانعة، تغرد عليها يمامات وتصدح عصافير.
 ذهبت إلى الحمام، وعدت، فسمعت طرقاً على باب الشقة، فذهبت وفتحت الباب، فرأيت رجلاً لم أعرفه من قبل، كهلاً طويل القامة، يرتدى بدلة رياضية، تريننج سوت، وشعره الذى وخطه الشيب، طويل مسدل خلف رقبته، ورأيته يحمل فى إحدى يديه مقطفاً صغيراً، وفى الأخرى وعاء من الزنك، له غطاء. قال لى وهو يتأملنى:
 -أهلاً وسهلاً بسيدنا الشيخ. أنا أخوك محمد هجرس المثال، وصديق الأستاذ ماهر. اسمح لى أقدم لك، دى حاجة بسيطة. وقدم لى ما فى المقطف، فإذا به كمية من المنين المنزلى المخبوز، ثم قدم لى وعاء الزنك وهو يفتحه، فإذا به كمية من الجبن الأبيض الفلاحى.
  شكرت الرجل، وجلس معى قليلاً ثم استأذن فى الانصراف. وتذكرت أننى سمعت عن الفنان الكبير، المثال، والرسام، محمد هجرس، بل وقرات عنه فى بعض الصحف والمجلات، وأدركت أنه وهو من نوابغ الفنانين فى العصر، كم أنه على هذه الدرجة من الطيبة والبساطة وكرم الأخلاق. ثم علمت فيما بعد، أنه كان قد علم من أنا، وما هى حكايتى، وكان يسكن فى منزل قريب فى حلوان، فأتى ليقدم لى ما عنده من كرم الضيافة.
 أفطرت من منين هجرس، وجبنه الأبيض، وصنعت لنفس كوباً من الشاى، على موقد غاز صغير وجدته فى ركن من الغرفة، كما وجدت عدااً من البرطمانات الصغيرة، بها شاى، وسكر، وبن.
 وكنت أدخن فى تلك الأيام، فجلست أدخن سيجارة بلمونت من علبه سجائرى. كنت قد تعرفت على محمد على ماهر منذ حوالى ثمانية سنوات. عرفته عن طريق سعد مكاوى وعبد الرحمن الشرقاوى، إذ كان صديقاً لهما، بحكم كونه أديباً وشاعراً وصحفياً هو الأخر. وكان يحضر لزيارتهما فى مقر لجنة القراءة بمؤسسة السينما، فتعرفت به، ونشأت بيننا علاقة مودة وصداقة واحترام.
 على أن أعجب ما حدث فى قة علاقتى بمحمد على ماهر، هو ما حدث يوم ذهابى - أنا والشرقاوى ومكاوى، لزيارته والسؤال عن والده الحاج ماهر، الأب، أو عرفت عنه شيئاً حتى ذلك الحين، ولكن الشرقاوى وسعد مكاوى، حدثانى عنه، فقالا إنه رجل من أولياء الله الصالحين، شيخ طريقة، من الصوفية الشاذلية، وأن له كرامات مشهودة، ومكشوف عنه الحجاب. وخشيت، وأنا شخص شيوعى ماركسى ملحد أن أتقابل مع مثل هذا الرجل، فيكتشف إلحادى، ويسئ لقائى، ولكنهما هونا على الأمر، فذهبت. كانت الزيارة فى شقة الحاج ماهر الأب فى الروضة. وكنا كثيرين، أنا والشرقاوى وسعد، وكان هناك محمد على ماهر، وشقيقاه، عبد العزيز، وشمس، وآخرين. دخلنا تباعاً إلى حجرة الرجل المريض، وكان يرقد على سريرة متكئاً على وسائده، سلم عليه الشرقاوى، وسعد، وجلسا كل على مقعد بالغرفة، ثم دخلت أنا وسلمت على الرجل، وقال له محمد وأنا مازلت أصافحة:
 -هذا صديقنا الأستاذ محمود توفيق،الشاعر، والمحامى، جاء يسلم عليك.
 سمع الرجل هذا الكلام وكانت يدى ما تزال فى يده، فضغط يدى واستبقاها فى يده، وجذبنى فجلست إلى جواره على السرير. وظل طول الوقت ممسكاً بيدى وكان يولينى أنا وحدى باهتمامه رغم وجود الكثيرين حوله بالغرفة. ثم مال إلى جوار سريره من الناحية الأخرى، فأمسك بعصا غليظة- سلامية - كانت مركونة على الحائط، وأتى بها، ثم طلب منى أن أمسك بيدى يدها المعقوفة، فلما فعلت، وضع يده على يدى وهى فوق العصا، واستمر فى كلماته المقتضبة مع الآخرين. بعد قليل أومأ إلى فاقتربت منه، فقال لى:
 -إذا تعرضت لأى مكروه، فإليك بهذه الآيات، فاقرأها ينصرف عنك كل آذى.
 وبدأ يلقننى تلك الآيات، ابتداء من فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، وآية الكرسى. فقلت له:
 -حاضر.. سمعاً وطاعة.
 وانصرفت أنا ومن معى من الزوار.
 وبع ذلك، لم يكف محمد على ماهر، عن التعليق على ما حدث، وابداء تعجبه منه، كان يقول:
 -لا تظن أن ما حدث كان صدفة أو أمراً مرتجلاً، فالحاج ماهر لم يفعل هذا مع أى إنسان سواك، ولا حتى مع أحد من أبنائه، ولا حتى معى. هو فعل ذلك معك، لأنه أحس بأن فيك شيئاً لله. وقد أعطاك العهد، وهذه العصا التى جعلك تمسك بها لم يلمسها أحد غيره سواك، ولا حتى أنا.
 ومنذ ذلك الحين، تغيرت نظرة محمد على ماهر لى، وعلاقته بى. كنت قد أصبحت بالنسبة له، ولياً، أو شبه ولى، من أولياء الله الصالحين. كل ما فى الأمر، أننى كنت ماركسياً لينينياًز ويقول ماهر: وماله .. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى. صدق الله العظيم.
  وها أنذا أبيت فى الصومعة التى كان يقيم فيها الحاج ماهر، الوالى الصوفى الشاذلى. بل ربما أنا أنام الآن على سريره، ولم يكن قد مضى على وفاته إلا عام واحد أو عامين. رحمه الله..